مشاهد فيلية-  سليمانية عام 1975

 

 المدينة على غير عادتها هذا العام فالاجواء حزينة رغم ان الحدث هو حدثا مفرحا وهو  الاحتفال بتخرج دفعة جديدة من طلبة جامعة السليمانية.

 

 المدينة منذ نشوء الجامعة فيها في نهاية الستينات، بأموال دفعت من قبل "مؤسسة الكولبنكيان"*،  كانت تعيش حالة زهو في مثل هذا الوقت من كل سنة، حيث كانت تضفي لأحتفالاتها بتخرج مجموعة من طلبتها طابعاً اشبه بعرس جماعي ، تشارك أهالي الخريجين افراحهم و الذين كانوا يقدمون اليها من كل صوب ومدينة في العراق ، لان الجامعة كانت تقبل جميع خريجي الثانويات العراقية ، بدون استثناء.

 

المدينة تعيش هذه السنة في حالة من الذهول والصدمة، بعد انتكاسة الثورة الكوردية.

 

نفس العائلة الفيلية  جاءت لحضور حفل تخرج ابنهم البكر.  في طريق توجههم الى مدينة السليمانية، وخاصة في الطريق الفاصل بينها ومدينة كركوك. رغم أن الطبيعة كانت تحتفظ  بجمالها الا انها لم تستطع أن تخفي أثار قنابل النابالم التي قصفت بها المنطقة، والتي كانت ما زالت شاخصة في الطريق وعلى سفوح الجبال، حيث  تركت مناطق سوداء جرداء خالية من أي حياة.

 

حلموا دوماً بيوم تخرج ولدهم البكر، الا انهم في ذلك اليوم كان هناك شعوراً داخلياً يمنع فرحتهم من أن تكتمل. كان أبنهم قد حقق نجاحاً باهرا على اقرانه رغم ان سنته الدراسية كانت 45 يوماً ، هي الفترة ما بين عودته الى الدراسة بعد التحاقه بالثورة الكوردية ووقت الامتحان النهائي ، نجح بتفوق واحرز معدلاً يفوق 90 % في كلية الزراعة ، رغم محاولة أحد الاستاذة البعثيين التأثير على نتيجته  بمنحه ادنى درجة في المادة التي كان يدرسها له (65%) ، حتى ظن عميد الكلية ان هناك خطأ في كتابة الدرجة لان بقية درجاته كانت تفوق 95%.

 

نجاحه هذا حقق له جزءاً من طموحه الشخصي، ليعوضه عن بعض من حالة الانكسار التي كان يعيشها منذ عودته من الجبال واخفاق تحقيق حلمه القومي الكبير.

 

الحفلة  ارادت لها السلطة ان تظهربها قوتها (وربما شماتتها) ،فاغدقت عليها بغزارة، وخاصة في الهدايا الموزعة على المتفوقين.  حصل البيشمركة السابق على هدايا كثيرة ، وكانت معظمها مقدمة من السيد (النائب) وهي كانت عبارة عن مجموعات من الساعات و الاقلام ذو ماركات عالمية فاخرة، ومطلية بالذهب.  لكنه وفي أقرب فرصة تخلص منها جميعها، لانه لم يشأ ان يحتفظ بأي منها، لانه كان يعرف ان ثمنها مدفوع من دماء شعبنا.

 

بعد عودته الى بغداد بدأت رحلته الشاقة في البحث عن العمل وتحقيق طموحه في الدراسات العليا، لم يجد بداً سوى في المحاولة، فتقدم لدراسة الماجستير، ضمن كلية الزراعة في جامعة بغداد، وفي صالة الانتظارلاجراء امتحان المقابلة، حدثه أحد المتقدمين عن شروط القبول، فقال" تصور ان أبن ( (.الكذا...) من جماعة البرزاني قد تقدم لحصول على مقعد دراسي معنا".  يبدوا ان هيئة هذا الكوردي الفيلي ولهجته البغدادية الواضحة ،  لم يجعل المتحدث ينتبه أن من يقف أمامه هوالشخص المقصود. فقال له وهل تعرف هذا الشخص فأجابه كلا ، فقال له أذا لماذا تتحدث عنه بهذه اللهجة، فربما كان متفوقاً دراسياً. فكان الرد " والتفوق الدراسي بيش الكيلو؟! المهم هسة يكون شخص أمين للحزب والثورة!!!". 

ففهم انه في المكان الخطأ.  لكنه رغم ذلك جرب حظه.  احتارت اللجنة الممتحنة في ايجاد عذراً مناسبا ًلرفض طلبه، لانه لم يترك لهم سؤال ولم يحسن الاجابة عليه ؟  ولكنهم أخبروه  في النهاية، انهم لا يستطيعون قبوله لانه خريج جامعة السليمانية؟! ، ومنهاج تلك الجامعة يختلف عن منهاج جامعة بغداد؟؟؟!!!.  و لم يتم قبول متفوق آخر، خريج جامعة بغداد ، لانتمائه الى اليسار العراقي؟؟؟!!! ، وتم قبول المتحدث في صالة الانتظار مع انه كان راسباً في سنته الاخيرة في ست مواد؟!!!.

 

 

د. منيرة أميد

15 أيار 2006

 

*مؤسسة كولبنكيان، كانت عائدة الى الرجل الاعمال والثري الارمني العراقي الاصل (كالوست كولبنكيان).

أمواله تراكمت نتيجة  لامتلاكه حصة في  شركة نفط العراق، فقد كان كولبنكيان يحتفظ بنسبة 5 بالمائة من مجموع ألاسهم ومن هنا جاءت كنيته الشهيرة "السيد الـ 5 بالمائة. وكان قد منح تلك النسبة نتيجة لاكتشاف النفط  في المقاطعات الواسعة من الاراضي التي كان يمتلكها  والتي كانت واقعة في سنجق (لواء) كركوك ،الذي كان تابعاً حينه لولاية الموصل، وفي ظل الحكم العثماني. لذا فان حصته لم تكن حديثة العهد بل تعود الى شركة النفط العثمانية وقد قررت تلك  الحصّه منذ العهد العثماني ايام عهد السلطان عبد الحميد الثاني .

 وبقيت علاقة الرجل قوية بالعراق حتى بعد ان عاش حياته في الخارج. فقد قدمت المؤسسة التي كانت تدار من أمواله وتحمل أسمه، والتي كانت تهتم بشكل أساس بالمشاريع الثقافية والفنية خدمات جليلة للشعب العراقي، فمنحت الزمالات الدراسية للطلبة في العراق واقطار العالم كافة ، بغض النظر عن ديانتهم او قوميتهم او طائفيتهم وقد استفاد عدد كبير من الطلبة العراقيين من هذه الزمالات. كما اسهمت مؤسسة كولبنكيان في بناء القسم الجديد لمدرسة الارمن المتحدة الاهلية في بغداد، وانشأت مدرسة في زاخو عام 1969 وملعباً في كركوك كما ساهمت المؤسسة في بناء كنيسة الارمن الارثوذكس في ساحة الطيران ببغداد من 1954 – 1957 ومدرسة ثانوية للارمن في حي الرياض ببغداد الى جانب اهداء اعداد كبيرة من الكتب والمناهج الدراسية للجامعات والكليات والمعاهد ودور العلم العراقية.

ولكن تعتبر بناءها لملعب الشعب الدولي من اهم الانجازات الشاخصة لحد اليوم وهو ما زال الملعب الدولي الوحيد  في العراق، كما أشرفوا على بناء قاعة الشعب في بغداد وقاعة الفن الحديث (كولبنكيان ) ومتحف الناصرية عام 1967.

وكان هديته للشعب الكوردي هو مشروع بناء جامعة عصرية هو بناء جامعة السليمانية بكل مرفقاتها، وكانت اول جامعة تنشأ في الكوردستان الجنوبية ( العراق).