مشاهد فيلية – حزن على فقد قريب –   بغداد  1963

 د. منيرة أميد - شباط 2007

 

لم تفارق الدموع مآقي الام .  كانت تصحو صباحاً وتبدأ  بتلك الاشعار الحزينة (مور بالكوردي).  كانت شديدة الالم على قريبها الشاب الذي أخذ غدراً.  جاءه جار سابق له وطرق الباب، فخرج وكانت ابنته الصغيرة " بشرى" متعلقة برقبته.  طلب منه ان يصطحبه، فسلم أبنته لاهله وأخبرهم انه ذاهب بصحبة " جبار الكوردي, تلك كانت آخر مرة يٌشاهد فيها. 

 

بعد انقلاب تشرين 1963 ، الذي قاده عبد السلام عارف نفسه، بعد أن انقلب على اصحابه السابقيين من البعثية، والذي أكد للمقربين منه، ان سبب انقلابه،هو فضاعة الجرائم التي ارتكبت على يد البعثية  ضد شرفاء العراق.  بحثت الام عن أبنها فوجدت جثته وتعرفت اليه، من حسنة كانت في رقبته.  لانه كان قد تشوه من كثر التعذيب، وكانت آثار الكي بالمكوات واضحاً على جسده، وكان قد دفن حياً مع مجموعة من رفاقه.  وذلك على الاقل ما سمعنا به من الوالدة، التي لم يخبوا حزنها عليه قط.  كان الشهيد من كوادر الحزب الشيوعي العراقي، ومسؤول خطه العسكري، وهو الشهيد البطل لطيف الحاج.

 

لنعود الى شخصية " جبار الكردي".  كان هو الاخر ينتمي الى اليسار العراقي كما أدعى البعض، لكنهم كانوا على خلاف معه لسوء تصرفاته، بينما نفى الكثيرون ذلك الانتماء. ولكن ما نستطيع ان نأكده انه  كان على علم بمعظم كوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي وخاصة من الكورد الفيلية، وكان حقده كبيراً على الحزب، حتى انه لم يتوانى من قتل كوادر من الحزب الشيوعي عندما كانوا يحتفلون في ساحة السباع ببغداد وأمام الناس المجتمعين في تلك الساحة.

 

كان قد دخل السجن لسبب أختلف الكثيرون في تفسيره.  وتعرف خلال وجوده هناك الى أعضاء من حزب البعث، استطاعوا ان يكسبوه الى جانبهم.  ولنفسيته الشريرة، ولذكاءه في الاجرام،  استخدم موهبته تلك ضد ابناء شريحته بالدرجة الاولى ، لذا لم يتورع من أخذ من كان الى الامس القريب يعتبرهم من أصدقائه، الى حيث لم يعودوا أبدا.

 

في أحد الايام وعندما كانت الابنة عائدة من المدرسة ، وفي طريقها في "شارع الكفاح"، رأت جموع كبيرة تتقدم في الشارع بأتجاه الساحة المقابلة لسينما "الفردوس" قادمة من اتجاه "باب المعظم"، كأنها في تظاهرة، وكان الرصاص يطلق بكثافة، وتبين لها عند اقتراب الموكب انها جنازة ؟؟؟!!!

 

عرفت لاحقاً ان تلك الجنازة كانت لستار الكوردي، الذي عرف ببطشه ، وسوء خلقه، حتى قيل انه كان هناك خلاف قد دب بينه وبين اخيه، جبار الكوردي ، لان الاخير كان يعترض على أخذ النساء الفيليات الى المعتقلات بينما كان الاول متحمس لذلك؟؟؟!!!

 

كان ستار الكوردي قد قتل على يد شريكه في "النضال" محمد فاضل، لاسباب غامضة، في بناية مركز شرطة الفضل، الذي كان مرتعاً، لقطعان الحرس القومي، بحكم ان  المنطقة التي تحيط بها كانت ذات ولاء بعثي، ويقال انه كذلك حتى اليوم وانه مصدر للعمليات الارهابية ومرتعاً لاوكار المجرمين التي تقوم باعمال الاختطاف، والتي تنفذ في مدينة بغداد.  ويحلوا لسكنتها ، بين فترة وأخرى أن ترسل قذائق ذات اليمين وذات الشمال الى المناطق المجارة، لتحصد أرواح  سكنة تلك الأحياء الفقيرة المكتضة. الذي لا يلبث أن يخبو قليلاً، لتحل محله القناصة والسيارات المفخخة.

 

قدم ستار وجبار الكوردي  للبعث خدمات لا محدودة ، ولصدام حسين بالذات، لكنهم لم يسلموا من بطشه.  وقد عزى البعض ذلك، لاسلوب صدام في التخلص ممن يعرف ماضيه، وخاصة وانه كان لا يحضى باحترام من كان معه في ايام "نضاله" الاولى.  والطريقة التخلص من جبار الكوردي  التي اتبعت تؤكد ذلك، لانهم لم يكتفوا باغتياله عند منعطف، عندما كان عائداً الى منزله.  وانما تم التخلص من اخوته جميعاً، وانسابه واقاربه وجيرانه، وكل من يمت بصلة له او لاحد من عائلته.  بل لم يكتفي صدام بذلك وانما حشر عنوة، مجموعة رائعة من ابناء الكورد الفيلية، ممن رفضوا الانتماء لحزب البعث، واتهموا بانهم "أكراد معادين للسلطة" ، وكانوا معظمهم أطفال صغار، لم يبلغوا السن القانونية، في قضية شهيرة في نهاية السبعينات، اطلق عليها " كباب الساطور" ، والتي راح ضحيتها مئات من الكورد الفيلية، ومعارضين آخرين، حيث دس السم في طعام (الكباب) المحتجزين قبل اطلاق سراحهم، بعفو من صدام لدى توليه السلطة،(التي توجت بمذبحة لرفاق دربه السابقين).

 

لم يسلم اي من المطلق سراحهم من الموت، سوى حالة واحدة، ظل صاحبها كسيحاً، والذي بقى شاهداً لتلك الجريمة .