مشاهد فيلية – عيد نوروز
كانت عيونها شاخصة الى ابنتها البكر وهي تراها تحمل صينية نوروز المزدانه بالشموع والياس ، كانت قبل لحظات قد سمعت صوت جارهم ينادي بأيقاد الشموع لان العام الجديد قد حل (دارت السنة) ، هي كانت في المخاض .. وقد بدأ عندها الطلق .. ولكن ذلك لم يمنعها من متابعة صغيرتها خوفاً من أن تسقط تلك الشموع . في تلك اللحظة سمعت صراخ الوليدة التي جاءت الى الدنيا في ذلك اليوم وفي تلك الساعات ، فاطلقت عليها أسماً يرتبط بالنور ، لان الكورد في هذا اليوم يشعلون الشموع ، ويوقدون النيران على الجبال العالية ، احتفالاً واستقبالاً بعامهم الجديد.
كانت قد أعدت كل شئ لهذا اليوم منذ أسابيع .. فقد قامت بزراعة القمح والشعير وذلك بوضعه في كيس قماشي خفيف (ململ) وصنعت منه أحزمة لأباريق فخارية صغيرة (تنكة) وأغطية (قبغ ) وكانت تملئ هذه الاباريق يومياً بالماء، فتمتص حبوب القمح والشعير الماء المترشح من هذه الاباريق ، فتبدأ بالنمو مشكله منظراً بديعاً، في يوم نوروز تقوم بوضعها الى جوار صينية الشموع . كانت ماهرة في تحديد وقت الزراعة ، لكي لا تنمو هذه الحبوب قبل الاوان فينتهي غذاءها فتصفر الاوراق وتذبل، وانما كانت تحدد لها العمر حتى تكون في اوج أخضرارها . كانت تزرع كمية بحيث تمثل عدد افراد الاسرة ، فحصة كل فرد حفنة من الشعير واخرى من القمح.
عندما اصبحنا بعمر اكبر ، كانت تمنح لكل منا حصته ، وتطلب منا زراعته في اواني فخارية.. ثم تتابع مدى أتقاننا لهذا العمل ، كان التنافس بيننا كأخوة يبلغ اوجه ونحن نتابع نمو تلك الحبوب ، كم افسدنا منها ، بأغداقنا عليها بالسقي مما كان يسبب اختناقها وموتها، وفي هذه الحالة لا تمنحنا غيرها.. وانما تقول لنا .. لقد أسأتم التصرف مع النبات الذي يمنحنا قوتنا لعام بأكمله.. لذا كن حذراً في ما تصرف.. لانه سوف لن يكون لك اي مصدر رزق (اي موت النبات قبل حلول نوروز أشارة نحس).. وعليك الانتظار للسنة المقبلة ؟؟؟ كثيرا ما كانت تنتهز هذه المناسبات لتوضح الحكمة القائلة ( من لا يزرع لا يحصد). ثم تبدأ رويداً رويداً .. تستدرجنا الى ان هذا ينطبق على كل الامور في الحياة .. فلا يمكنك ان تنال مرادك دون السعي وبذل الجهد ؟؟؟!!! مشجعة لنا ان نهتم بدراستنا ونيل الشهادة ، لان ذلك هو قمة مناها.
كانت قبل يوم قد اجهدت نفسها في تلوين البيض. و قبل التلوين قامت بسلقه مع قشور البصل ليعطي للبيضة ذلك اللون البصلي الجميل ، ثم قامت بنقشها بالوان اخرى مستخدمة اوراق ملونه ،المخصصة اصلاً لعمل الزينة في الاحتفالات.. كانت تلك هواية قريبة لنفسها وتحس براحة تامة لدى ممارسها، فقد تعلمتها بالفطرة. كما كانت تبدع في تنسيق الالوان المختلفة و بشكل عجيب، ربما اكتسبت ذلك الذوق من البيئة التي عاشت فيها ، في قرى كوردستان ..حيث الأودية والجبال وبالذا ت في هذا الوقت من السنة ، تكتسي بتلك الزهور الذي ابدع الخالق في تنوع الوانها، لتشعرك انك في مهرجان فرح بقدوم الربيع. كما كانت حريصة أن تحتوي صينية نوروز على جميع انواع الفواكه والخضر المتوفرة في ذلك الموسم وكذلك كل انواع المكسرات والحلويات ( الجكليت واللقم ومنسمه و السمسمية والبادم وقطعة من المكاوية) وحبة جوز هند غير مكسورة .. ننتظر شرب السائل (الحليب) الذي في داخلها بعد الاحتفال ، ثم كيفية رفع القشر عنها بمهارة .. كان الوالد يقوم بتلك المهمة خوفاً علينا من أي أذى.
تلك السنة حرمت العائلة من الاحتفال كبقية الاعوام .. لانهم كانوا في حداد على خالهم الذي مات بشكل فجائي وهو في ربيعه الثامن عشر، تاركاً عروسه الحامل. وكذلك حرموا بسبب وضعها من الذهاب الى مقبرة السلام ( في النجف الاشرف حيث يدفنون موتاهم) ، وتلك عادة أخرى للفيلية .. هي زيارة ضريح الأمير المؤمنين (ع) ثم زيارة المقابر في اول يوم من أي عيد كان. ليتبعه أجتماع كل الاهل والاقارب بكامل أفراد عوائلهم .. وخروجهم مبكراً في الصباحات الأخرى للعيد، ليحتفلوا متوجهين الى مدينة سلمان باك وبساتينها.. وتأخذ كل عائلة طعام الغداء معها.. من الدولمة او (التاجينة، البرياني) .. وتقوم بتبادل صحون الاكل فيما بينها.. وطبعاً لا ينسون صلاة الظهر في ضريح .. الصحابي الجليل سلمان الفارسي (سلمان باك).
وبعد الغداء والصلاة يبدأ الغناء والرقص والدبكات الفلوكلورية .. وتصدح الاصوات بالغناء الكوردي اللوري الجميل .. حيث يعلو وينخفض المغني في صوت (دال) ، ويتفنن بمقدرته الصوتية .. بينما يرد عليه الاخر بفقرة أخرى .. وهذا دواليك.. لتحفر تلك الأغاني مكاناً لها في قلب وذاكرة مستمعيه.. ولتحسن عندهم الذائقة الفنية .
يستمر الاحتفال الى وقت العصر حيث تجتمع العوائل وتتهيأ للعودة .. كل منها في سيارة الاجرة التي استأجرتها لكل اليوم مع سائقها.. وعادة يكونون من الفيلية أنفسهم .. ويتم الاتفاق معهم قبل العيد ، وربما يكون نفس الشخص الذي يعتمد عليه في كلا السفرتين – زيارة النجف وسفرة سلمان باك.. ويكونون ممن يثقون بهم لان تلك السفرات عائلية.
في الاعوام التالية ، اصبح منتزه صدر القناة هو المكان الاكثر ارتياداً في مناسبة نوروز .. حيث تستقبل الاف العوائل الكوردية التي تعود في اصولها الى مختلف مدن كوردستان، وتكون الدبكات في هذه الحالة مصحوبة بالطبل والناي (زرنه ودهل)، وتكون المجاميع المختلفة اكبر واوسع، وليس بالضرورة أن تربطها صلة القرابة ، كما كانت في الاحتفالات الاولى. كما كانت هناك عوائل كثيرة تفضل التوجه الى مدن كوردستان لتقضي فيها هذه الايام الجميلة.
|