[28-10-2005]
عراق اليوم ، كما
كان الحال في عراق الأمس ، وكما سيبقى في الغد، وطن متعدد المذاهب الدينية
خليط من الشيعة والسنة وفيه مذاهب أخرى . تلك حقيقة تاريخية وواقع
اجتماعي- ثقافي لا يشك به عاقل .
الصراع الطائفي في العصور السالفة والموغلة في القدم كان محور حياة الناس
وشغلهم الشاغل ، أيام لم يكن هناك شعب بل رعية لا علاقة لها بما تفعله الدولة
أو يقوم به الحكام: يولدون ويموتون لأسباب خارجة عن إرادتهم : في العادة
أوبئة تعصف بأرواحهم أو جهل يحجب عنهم وسائل الدفاع عن حياتهم أو جوع ينهش
عظامهم. وفي حالات أخرى يزجهم الحاكم الطاغية في حروب لا طاقة لهم لتحمل
وطأتها ويواصل هو ورهطة وحاشيته نهب ثروات الناس والإمعان في إفقارهم . أما
الدولة والحاكم فهي رموز لا علاقة لها بما يحل بهم، عليهم طاعته وتلبية
أوامره .
ولا غير ذلك ولكن لو
دونت مذكراتي، وقد حل خريف عمري، لكتبت فيها ما يلي : سمعت وكنت طفلا في
بداية الخمسينات من القرن الماضي أبي يتحدث عن الشيعة والسنة. .وفي نهاية
الخمسينات انقطعت هذه الروايات ، لم أعد أسمعها من أحد لا داخل أسرتي ولا
خارجها. الناس حولي مشغولون بشؤون السياسة والحكم، ، يتظاهرون ويسجنون
ويعذبون لكنهم مصرون على مناضلة الاستعمار والرجعية المحلية ويطالبون بدولة
مستقلة، وبالحرية والديمقراطية، ويطمحون إلى دولة جديدة حرة بلا محسوبيات ولا
منسوبيات، دولة تنقذهم من المرض والجهل والفقر.
هذه كانت لغة العراقيين من شيعة وسنة ومن مذاهب أخرى.
وفي عصر الديكتاتورية الأسود تغيرت الأحوال. تعلمت الدولة كيف تزيف إرادة
الناس، وتعلمت الحاشية كيف تصنع صنما وتجبر الناس على تقديسة. ومارست سياسة
فرق تسد، وبعثت - بروح خبيثة - الماضي السحيق وأنعشت الطائفية واستثمرتها على
أبشع ما يكون، ودمرت التراث الفكري والتقدمي وطيبة العراقي ونبل أخلاقه : تلك
المكاسب التي صنعتها الأجيال العراقية جيلا بعد جيل بتضحياتها ومعاناتها.
لم تكن الدكتاتورية العراقية سنية المذهب. لكنها بعثت الطائفية لكي تبقى في
السلطة تنهب ثروات البلاد سرقة وتبذيرا ولشراء الذمم في الخارج.
في عراق اليوم المتطلع للمستقبل المشرق ، أصبحت السياسة شغل الناس الشاغل:
ينتخبون السلطة الحاكمة ويقيدونها بقوانين تمنعها من التعسف و الانفراد
بالسلطة. تعمل بشروط الناس وإرادتهم ،. يجربونها فإن وفرت لهم الحرية
والديمقراطية وأنقذتهم من المرض والجهل والفقر ونشرت الثقافة والمعرفة وفتحت
لهم أوسع نوافذها وأبوبها المطلة على العالم من حولهم أعادوا انتخابها، وإلا
حاسبوها واقتصوا من المسيئين وانتخبوا غيرها .
فأي مكان للطائفية في عراق اليوم
المجتمع العراقي كيان مدني بحاجة ماسة إلى أحزاب مدنية تقود مسيرته في عالم
أصبح قرية صغيرة ولم يعد كوكبا مجهولا يضم بقاعا منعزلة ، ولن تجد المجتمعات
التي تحلم بالماضي البعيد مكانا لها وسط كيانات تحلم بالمستقبل القريب
والبعيد.
zuhair@libero.it