التشتت السياسي عند
الكرد الفيليين : الأسباب والنتائج
د. زهير عبد الملك
المقدمة :
لعل هذا البند في ملف الكرد الفيليين هو الأكثر استجابة
للدوافع التي حملت السادة المشرفين على موقع كردستان تايمس لتنظيم هذه
المبادرة بالغة الأهمية في الأجندة السياسية لعراق اليوم والغد. وهي أيضا
حيوية ولازمة لكي يلتفت الفيليون لواقعهم السياسي ويعالجونه بجدية إن أرادوا
بحق الإسهام في العملية السياسية الديمقراطية في عراق اليوم والمستقبل،
واستعادة حقوقهم المغتصبة وتنمية أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
في العراق الجديد.
وبودي في البداية اقتراح تعديل يبدو بسيطا على صياغة البند المذكور لكنه على
قدر من الأهمية في ما أرى. ذلك أن الحديث عن التشتت الفيلي لا يتسم بالدقة
المطلوبة في معالجة ما نحن بصدد معالجته. إذ يفترض التشتت ظاهرة تعني ضمنا
نقيض ما كان موحدا في البداية. وهو ما لم يفترضه أحد من المعنيين بالشأن
الفيلي أو غيرهم.
ولعل من الأفضل الحديث عن لماذا لا يتوحد الكرد الفيليون تحت مظلة أو مظلات
سياسية يستطيعون من خلالها تعبئة قواهم للمساهمة في العملية السياسية الجارية
في العراق لإعادة بناء المجتمع العراقي على قواعد الديمقراطية والنظام
الفيدرالي، وقيادة مجموعاتهم سياسيا لما فيه ضمانات لمصالح الفيليين أنفسهم
في العراق وفي الخارج.
ولنبدأ بالإشارة إلى حقيقة ناصعة هي أن الفيليين في العراق مندمجون اندماجا
تاما في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي العراقي. وأن أعدادا
كبيرة منهم منضوون في أحزاب سياسية عديدة، شأنهم في ذلك شأن سائر المجموعات
السكانية في العراق المتميزة بانتمائها الوطني وعراقيتها الصميمة وتكوينها
النفسي الموحد الذي يتجلى من خلال هويتها العراقية بما يسهل على مواطني
البلدان المجاورة معرفة العراقي من أول وهلة عربيا (شيعيا، سنيا، صابئيا ،
تركمانيا، إيزيديا، مسلما أم مسيحيا أم يهوديا ) كان أم كرديا.
ومع ذلك يتمتع الفيليون بخصوصية استثنائية ناجمة عن كونهم كرد يعيشون خارج
إقليم كردستان العراق وسط بيئات عربية في الوسط والجنوب، وقد تعرضوا في ظروف
غياب الديمقراطية عن البلاد إلى ضروب عديدة من الاضطهاد السياسي على درجات
أولها حرمان عدد كبير منهم من حق المواطنة وآخرها سبيهم وطردهم من البلاد
والاستحواذ عل أموالهم واحتجاز ألألوف من شبانهم في السجون العراقية ومن ثم
قتلهم ودفنهم في قبور جماعية لم تكشف حتى اليوم.
وهكذا تتضح ضرورة تغيير اتجاه البحث من دراسة أسباب التشتت ونتائجه، إلى
البحث عن أسباب عدم قيام تنظيمات سياسية للفيليين وأسباب ذلك ونتائجه.
وهذا البحث يفترض سلفا الاعتقاد بضرورة قيام حزب سياسي للكرد الفيليين تبرره
خصوصيتهم الاجتماعية – الجغرافية، وآليات استعادة حقوقهم المدنية التي
اغتصبها النظام السابق، وضرورات توفير الحماية لهم من خلال الاعتراف
بعراقيتهم الأصيلة، ومستلزمات تنمية مجتمعاتهم المحلية، و إلا لما توجب البحث
في هذا الموضوع أصلا.
جوهر المسألة الفيلية أو أزمة الديمقراطية في العراق
يرتبط جوهر المسألة الفيلية في العراق تاريخيا بحرمان البلاد من الديمقراطية
السياسية. وهذه حقيقة ثابتة تنسحب بوضوح على كافة مكونات الشعب العراقي الذين
طالهم إرهاب الدولة العراقية الدكتاتورية منذ تأسيسها حتى انهيارها في ربيع
2003.
من هنا نشأت المسألة الفيلية، جزءا من المسألة الوطنية العراقية،واستقطبت
اهتمام الرأي العام العراقي، كما حفزت مثقفي الفيليين وسياسييهم على العمل
والمشاركة، منذ منتصف القرن الماضي في النضال في صفوف الأحزاب اليسارية
والديمقراطية والإسلامية والكردستانية، بهدف تحرير البلاد من الاستعمار ومن
ثم من النظم الديكتاتورية والعسكرية ودولة الحزب الواحد والرجعية العراقية
عموما وبناء نظام ديمقراطي سليم وشفاف ونظام اجتماعي واقتصادي يحقق الرفاه
والسلم الدائمين.
وعلى هذا الأساس يكون الفيليون قد أودعوا قضيتهم في عهدة الأحزاب العرقية
المعارضة لمعالجة جوانبها المدنية والقومية والتنموية في إطار سياسات الدولة
العراقية المتحررة من الدكتاتورية والإرهاب السياسي والاجتماعي.
أولا: حفزت
سنوات الإرهاب والمنافي وانعزال مئات الألوف من الفيليين في المهاجر،
والتغييرات التي طرأت على موازين القوى الاجتماعية في العراق وعلى تحول طبيعة
نظام الحكم نحو الدكتاتورية المتوحشة، ومن ثم انهيار الدولة العراقية على عهد
حزب البعث العراقي، بعض مثقفي الفيليين على التفكير الجدي ببناء حزب سياسي،
بعد أن أدركوا حاجة شريحتهم لأن ترتقي بمستويات نشاطها من مستويات التنظيم
الاجتماعي –الخيري إلى مستوى العمل السياسي المنظم والهادف . وقطعو شوطا في
هذا المضمار خلال السنوات الثلاثة الأخيرة 2002-2005 .
فما الذي آلت إلية جهود الفيليين لتوحيد قواهم وبناء مؤسساتهم السياسية
الكفيلة بظل الديمقراطية وآلياتها البرلمانية بمساعدتهم على استرجاع حقوقهم
وتنمية مجتمعاتهم ؟
المتتبع للمسألة الفيلية لا يخطأ
في استنتاج الحقائق التالية:
تحرك الفيليون لأول مرة في تاريخهم على محاور عدة في محاولات سبقت حرب تحرير
العراق بأشهر لتشكيل تنظيمات سياسية تستهدف التعبئة والترويج لإسقاط النظام
المتسلط في بغداد. والعمل على استرداد حقوق الفيليين وممتلكاتهم التي استحوذ
عليها النظام أهداف المذكور العراقي في عمليتي تهجير القسري في سبعينات
والثمانينات القرن الماضي.
ثانيا: في سبتمبر /أيلول
2002 التقت مجموعة من الكرد الفيليين المقيمين في الخارج يهدف الإسراع في
تشكيل أول منظمة تجمع الكرد الفيليين . وقرر المجتمعون في جلسات
هامبورغ(ألمانيا) عقد المؤتمر الأول لهذه المنظمة بمدينة ليل (فرنسا) في
يناير/كانون الثاني 2003. وفي ليل انعكست التدخلات والخلافات والمشاحنات
الشخصية على سلوك عدد صغير من المشاركين ممن كانوا يحملون أفكارا وطموحات لم
يفصحوا عنها، كما لم يطلع عليها سوى المتصارعين في ما بينهم. الأمر الذي أدى
في النهاية إلى أن تنسلخ هذه المنظمة عن منظمة أخرى اتخذت لنفسها اسما جديدا
ووضعت نظاما داخليا لا يختلف في جوهره عما ورد في النظام الداخلي و الأهداف
التي حددتها لنفسها المنظمة الأولى قبل ذلك بأقل من ستة أشهر.
وفي فترة الحرب على النظام وبعدها بقليل توجه عشرات الفيليين من المنظمتين
إلى بغداد وأسسوا كيانات باسميهما. وتواترت الأنباء عن الانتصارات والتأييد
الذي أحرزه المنظمتان في أوساط الكرد الفيليين في الداخل، ونشرت صحفهم لقاءات
قادة المنظمتين المذكورتين مع المسئولين في كردستان العراق وفي بغداد. وفي
نفس الوقت بادرت جماعات فيلية أخرى مقيمة في أوروبا إلى الإسراع في تكوين
كيانات سياسية جديدة باسم الكرد الفيليين.
ثالثا: تقييم النتائج المحققة
لا تقاس نتائج العمل السياسي في العادة على المدى القصير. وعلى ذلك سنحاول
تقييم منجزات المنظمتين في ضوء نتائج انتخابات الدورة الثانية للبرلمان
العراقي في ديسمبر/كانون الأول 2005 .
ألف- لم يستطع الكرد الفيليون إرسال من يمثلهم
عن المنظمتين المذكورتين إلى البرلمان العراقي.
باء- لم تستطع المنظمتان أعلاه الاندماج
بالحركة الوطنية و الكردستانية العراقية، كما عجزتا عن استيعاب الفيليين
أنفسهم في الداخل والخارج وتمثيلهم.
• جيم- استمر ظهور منظمات أخرى في أوروبا للكرد
الفيليين، وهذه المنظمات تلتقي جميعها في تماثل أهدافها وتشابه أنظمتها
الداخلية وآليات عملها، وهي معزولة إلى حد بعيد عن الفيليين في الخارج وفي
الداخل وعلاقاتها هامشية مع الحركة الوطنية والكردستانية.
دال- وفي مقابل ذلك، لم
تظهر على السطح أية محاولة مهما كانت جديتها في أوساط الفيليين في الداخل.
وإن اكتفى بعضهم بمناقشة وبلورت الأفكار التي دعت إلى إنشاء حزب سياسي
للفيليين في الخارج وأدلوا بملاحظات تعكس نضوجا سياسيا ووطنيا وقوميا واضح
المعالم بالمسألة الفيلية.
رابعا:
الفيليون في الداخل و الفيليون في الخارج
قبل تناول الأسباب الرئيسية والثانوية التي تحول دون وحدة الفيليين، ارتأيت
تقديم بعض الأفكار عن الفيليين في الداخل وعن الفيليين في الخارج. وذلك أمر
مرتبط دون شك بمدى نجاح أو فشل النخب السياسية الفيلية في مساعيها التنظيمية،
ويحدد الشروط الضرورية في كلا الحالتين.
الفيليون في الداخل
كادت عمليات التهجير القسري تطول بجريمتها غالبية الكرد الفيليين ولاسيما من
سكنة محافظة بغداد والحواضر الكبيرة في المدن الجنوبية، ونجحت في نشر الرعب
والخوف في معظم أوساط المجتمع العراقي. ولولا قوة نسيج العلاقات الاجتماعية
وتضامن العراقيين لمجابهة مثل هذه المخاطر الجماعية لما بقي منهم أحد في
العراق ولزاد عدد الكرد الفيليين وغيرهم فوق الرقم المقدر بمئات أخرى من آلاف
المهجرين إلى إيران.
وقد تسبب الرعب والخوف من بطش السلطة، في انطواء الفيليين واللجوء إلى مختلف
أساليب المراوغة لتجنب تهمة التبعية والأصل الكردي حفاظا على أنفسهم وأسرهم
من عدوان أجهزة الأمن والمخابرات العراقية والتهجير القسري على خلاف إرادة
الفيلي ونقيض حبه للصراحة والافتخار بكرديته وعراقيته.
لقد كرست سياسات البعث جهودها من أجل تجهيل المواطنين العراقيين عموما
ومحاربة انتشار الوعي السياسي وحصره بفكر حزب البعث وتشويه نفسية العراقي
وإفسادها، من خلال إشاعة الإرهاب السياسي والفقر وتنامي ظاهرة مجتمع
المستهلكين والركض وراء لقمة العيش وتعطيل منظومة القيم الاجتماعية
والأخلاقية لدى العراقيين. كما أدت المعاناة والفراغ والانعزال عن المحيط
الخارجي إلى ظهور بعض العادات المستهجنة في التنابذ والحسد والانتقاص من قيمة
الآخرين دون معرفة وفبركة الأقوايل والاتهامات الباطلة دون علم وغير ذلك من
أسوء العادات القديمة التي كانت قد اندثرت إلى حد كبير في السنوات الماضية،
ولاسيما ما يخص الناشطين سياسيا واجتماعيا دونما اعتبارات للحقائق والوقائع
الملموسة.
وانعكست هذه السياسات سلبا وعلى نحو أشد وأقسى على الذين نجوا من عمليات
التهجير من الكرد الفيليين حيث بدأت ظاهرة تراجع الوعي السياسي والقومي في
أوساطهم على نحو واضح يتجلى في تدهور علاقاتهم بالأحزاب العراقية التي طالما
تحمسوا لشعاراتها ومواقفها السياسية الوطنية والقومية.
ويعاني الفيليون اليوم في داخل البلاد من تردي الأوضاع الأمنية والبطالة
والفقر، وقد فقدوا جراء تراجع طموحاتهم إلى أدنى المراتب بعد أن تلمسوا غياب
التناول الجدي لمطالبهم واستعادة حقوقهم المدنية ناهيك عن حقوقهم القومية في
برامج الأحزاب السياسية والكردستانية العراقية، ولم يجدوا خيارا أفضل من
المشاركة في العملية السياسية بقدر حجم المكاسب التي يحصلون عليها لقاء ذلك
من هذه الجهة أو تلك.
بيد أن هذه الظاهرة بدأت تتقلص عقب سقوط النظام ولاسيما
في بغداد والحواضر الكبيرة، وبرزت عناصر استطاعت رؤية الحقائق وتشخيص
السياسات رغم الضباب الكثيف الذي أثارته حملات الإرهاب المنظم في البلاد،
وتلكؤ بعض الإدارات الحكومية في الاستجابة لمطالب الفيليين رغم نظامية
طلباتهم ومواجهة حالات يصعب تصديقها من الممارسات المعادية لحقوقهم بنفس منطق
البعثيين وعنجهيتهم. .
ومع ذلك تبقى القوى الاجتماعية للكرد الفيليين داخل البلاد هي القوى الفاعلة
الحقيقية في الساحة السياسية العراقية، وهي المصدر الأساسي لتغذية أي تنظيم
سياسي يؤسسه الكرد الفيليون لا بهدف استعادة حقوقهم المدنية والتمتع بحقوقهم
القومية فحسب بل في إعادة بناء مجتمعاتهم المحلية وتنميتها اقتصاديا وثقافيا
في إطار عملية متكاملة لإعادة بناء الوطن العراقي وإرساء قواعد
الديمقراطية-البرلمانية والنظام الفيدرالي في عموم البلاد على أسس سليمة
ومتماسكة.
إن آلية العمل البرلماني تحتم بطبيعتها تعبئة القوى الاجتماعية سياسيا
وقيادتها لبلوغ أهداف الدولة الديمقراطية التي تستوعب الطموحات الكلية للشعب
العراقي في الحرية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتترك المجال
للتعبير عن الطموحات الجزئية للمجموعات السكانية وتفعيلها من خلال جهود
ممثليها في البرلمان العراقي ومساعيهم من أجل بلوغها في إطار عملية التفاعل
السياسي داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها البيروقراطية.
الفيليون في الخارج
تذوق الفيليون لأول مرة منذ سبعينات القرن الماضي مرارة التهجير والمنافي في
إيران أولا ومن ثم في غيرها من بلدان العالم. وقد ترتب على عملية تهجيرهم
القسري من العراق نتائج وخيمة بجميع المقاييس بعضها ملحوظ وبعضها خفي ومستتر،
ولعل الأخطر من كل هذا وذاك تولد شعور عميق لدى بعض البعض منهم بالرفض وتنكر
العراقيين لهم والتخلي عنهم، وهم المعروفون بولائهم للوطن وحبهم للعراق
وتمسكهم بوطنيتهم العراقية وقوميتهم الكردية. وقد نجم عن ذلك وتعزز في ما بعد
انتقال الفيليين للجوء في البلدان الأوربية شعور لدى الفيلي البسيط، الذي كبر
وترعرع في إيران وفي أوروبا من بفقدان الثقة بالأحزاب السياسية العراقية
والكردستانية على حد سواء وعزوفه فعليا عن العمل السياسي الجدي والملتزم وإن
تحمس وفي بعض الحالات شارك في اجتماعات ولفاءات التنظيمات الفيلية في الخارج.
كما أسفرت إقامتهم الطويلة نسبيا في بلدان المهجر عن نتائج ايجابية عديدة،
منها استقرارهم واكتساب جنسيات تلك البلدان، وتحسن أوضاعهم المادية ولاسيما
في البلدان الاسكندنافية والأوروبية، إلى جانب أنواع من الشعور بالاغتراب، في
حين ما زالت مصاعب الاندماج تواجه معوقات حضارية عديدة بين أطراف التفاعل
الاجتماعي والثقافي في بلدان المهجر.
ونشأ جيل جديد من الفيليين الأوروبيين من الجنسين من خريجي الجامعات وحصلوا
بالسعي المثابر والدراسة المتواصلة على شهادات وخبرات مرموقة في مختلف ميادين
المعرفة والتكنولوجيا والعلوم التطبيقية والآداب والفنون والسينما وغير ذلك،
ومعظمهم ما زال يحتفظ بفضل ولاسيما الأمهات الفيليات بحبه لوطنه الأصلي
وقوميته الكردستانية وبمعرفته للهجة الكردية الفيلية ولجته البغدادية
الواضحة. كما اكتسب عدد كبير من آبائهم خبرات ومهن جديدة تتنسب مع خبراتهم في
العراق قبل التهجير أو حصلوا على شهادات جامعية في اختصاصاتهم العلمية. كما
قطعت المرأة الفيلية شوطا طويلا في ميادين التعلم واكتساب اللغات وامتثال
الثقافات الأوروبية في حسن التربية والعادات الاجتماعية الحميدة. لقد أصبحت
مفاهيم الديمقراطية السياسية وحرية الرأي واحترام آراء الآخر جزءا أساسيا من
التكوين الفكري لأعداد كبيرة من الكرد الفيليين المقيمين في البلدان
الأوروبية. وارتبطت المصالح المادية والثقافية للأسرة الفيلية ارتباطا حيويا
بالنظام السياسي لبلد الإقامة أو الوطن الجديد.
ويشكل الفيليون في الخارج المصدر الأساسي لإسناد جهود فيليي الداخل،
والرافد الفعلي لدعم جهودهم من أجل تبؤ مكانة مرموقة في العراق الجديد. وهم
يمثلون في واقع الحال القوى التي بمقدورها في هذه الظروف الاستثنائية التي
يمر بها العراق إنجاز مهمة بناء نواة العمل السياسي، وتسهيل مهام فيليي
الداخل في تحقيق قفزة نوعية في تأطير جهودهم وتعبئة قواهم باتجاه تأسيس حزب
سياسي يساند قوى الخير والتقدم في العراق ويعمل على حل مشكلات الكرد الفيليين
المدنية و النهوض بواقعهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما يستطيع فيليو
الخارج بناء منظمات اجتماعية وثقافية لاستيعاب الشبيبة الكردية الفيلية
وتوجيهها نحو الاندماج بالمجتمعات الأوروبية مع الحفاظ على التراث والثقافة
الوطنية والقومية العراقي،وتكوين آلية فعالة لنقل التكنولوجيا والمعرفة إلى
الداخل.
خامسا:
أسئلة مشروعة
ولكن لماذا لم يستطع الكرد الفيليون حتى الآن تشكيل منظمات سياسية راسخة
وقوية أو بناء حزب (أحزاب) سياسي ذي قاعدة عريضة وفكر تقدمي يواكب العصر
وسياسات داخلية تستجيب لمصالح الفيليين بصفتهم عراقيون وكرد يستوطنون مناطق
خارج إقليم كردستان العراق؟
من الممكن تلخيص أسباب فشل الفيليين في الحالتين بما
يلي :
ألف- افتقار معظم النخب الفيلية في الداخل
والخارج إلى رصيد فكري وإلى تجارب عملية ملموسة في العمل السياسي على صعيد
المكون الفيلي، إذ أن جميع المنظمات والمؤسسات والجمعيات التي أنشأها
الفيليون منذ أربعينات القرن الماضي حتى بداية عام 2003 إنما تندرج ضمن
مؤسسات المجتمع المدني ولا ترقى إلى مستوى الأحزاب السياسية. ولأن خيرة النخب
الفيلية من السياسيين إنما اختارت العمل مع الأحزاب السياسية العراقية
والكردستانية لاعتبارات كثيرة يأتي في مقدمتها المشاعر العميقة لدى الكردي
الفيلي ولاسيما البغدادي بكونه جزء من الشعب العراقي، واندماج الشبيبة
الفيلية في بغداد وفي وسط البلاد وجنوبها بالمجتمع العراقي العربي وتبلور
المشاعر العميقة للنخب الفيلية في أصالة انتمائها الوطني والقومي رغم عامل
البعد الجغرافي عن إقليم كردستان العراق للوطن العراقي . وهذا ما يفسر حقيقة
أن تلك النخب إنما وجدت في الحركة الوطنية العراقية اليسارية والكردستانية
ومن ثم الإسلامية، وليس خارجها. هياكل تستوعب تطلعاتهم الوطنية والقومية،
وحيث أن هذه الظاهرة تاريخية وطبيعية فقد ترتب عليها بالضرورة تحول قضية
الكرد الفيليين ومشكلاتهم مع الدولة العراقية إلى وديعة مؤتمنة لدى أطراف
الحركة الوطنية العراقية اليسارية و الكردستانية والإسلامية.
باء- أن غالبية الذين تصدوا لبناء تنظيمات
سياسية للكرد الفيليين هم في واقع الحال من الشباب الذين ذاقوا مرارة التهجير
وأهواله والذين نمو وترعرعوا في المنافي في إيران أولا وفي البلدان الأوروبية
بعد ذلك، وتنحصر خبرات العديد منهم بسنوات ممارسة العمل السياسي في أطار
الأحزاب السياسية الوطنية والكردستانية العراقية قبل التهجير وبعده ، وفي
أنشطة الجمعيات الفيلية التي لم تتأخر في الظهور هنا أو هناك على امتداد
العقود السابقة ولاسيما في البلدان الاسكندنافية والأوروبية. ومن بين هؤلاء
الناشطين سياسيا نسبة صغيرة من الشبان الذين يفتقرون إلى ثقافة سياسية واضحة
ومنهجية مقبولة في التحليل وخبرات سابقة ووجهات نظر موضوعية للقضية الوطنية
والفيلية على حد سواء.
وباستثناء أهمية التزامن في الأحداث وعدم أخذ ذلك
بالاعتبار فقد ترافق ظهور أكثر مجموعات العمل السياسي حماسة في الساحة
السياسية الفيلية مع الظاهرة التي انتشرت في فترة التحضير واسع النطاق لتعبئة
قوى المعارضة العراقية للإطاحة بنظام حكم حزب البعث الطاغي في العراق بدعم من
المجتمع الدولي، حيث شهدت الساحة العراقية في الخارج اندفاع مجموعات شتى
وأفراد من مختلف المشارب لفبركة كيانات سياسية معظمها وهمي و بعضها ساذج
موجهة نحو اقتناص الفرص المتاحة للحاق بركب المحررين الأمريكان على موجة
معارضة النظام العراقي أملا في الحصول على مكاسب وامتيازات لم تكن دوافع
المصالح الشخصية بعيدة عنها .كما ظهرت مثل تلك المحاولات في صفوف أوساط عديدة
من العراقيين المتضررين من النظام العراقي.
جيم- والجدير بالتذكير أن العناصر الفيلية
التي اجتمعت في هامبورك (ألمانيا) في ربيع 2002 ، ومنهم أعضاء أو مناصرين في
أحزاب عراقية وكردستانية إلى جانب عدد من السياسيين المستقلين، لم تكن مقتنعة
تماما بتشكيل كيان سياسي أي حزب سياسي فيلي، بل أن إضافة تعبير منظمة ذات
أهداف سياسية إلى البيان التأسيسي الصادر عن الاجتماع المذكور إنما استلزمت
في واقع الحال بعض المناقشات.
دال- يحمل العديد من الفيليين أفكارا وتصورات
غريبة الشأن في يخص موقف القيادات الكردستانية العراقية من المسألة الفيلية.
وباستثناء مواقف بعض المتطرفين لا يفصح هؤلاء عن وجهات نظرهم هذه إلا في نطاق
محدود، ناسين و متناسين أو هم يجهلون في أسوء الحالات دور القيادات
الكردستانية في الدفاع عن الكرد الفيليين وتضامنهم مع معاناة الفيليين قبل و
أثناء عمليات تهجيرهم من العراق وبعدها ، ودور الأحزاب الديمقراطية العراقية
ولاسيما اليسارية في احتضان المهجرين والمساعدات القيمة التي قدمتها إلى
الشبيبة من الكرد الفيليين ولاسيما شبابهم في العراق وفي إيران وغير ذلك من
البلدان.
وسأتناول في ما يلي نقطة أخرى ذات صلة بالفقرة (دال) وإن كانت في ما يبدو
خارجة عن سياق البحث. وهي تتعلق بنظرة المتطرفين المشار إليهم أعلاه بصدد
مواقف الأحزاب الكردستانية العراقية من قضية الكرد الفيليين.
تتلخص وجهات نظر المتطرفين هؤلاء في أحسن الحالات القابلة للنقاش وتبادل
الأفكار في اتهام القيادات الكردستانية بإهمال الشأن الكردي الفيلي ،وهو ما
لا تدعمه الأحداث والمواقف التاريخية لتلك القيادات قبل التهجير وبعده ، وقد
تطرقنا إلى ذلك أعلاه. والترويج لمقولة لا تستقيم مع المنطق من أن القيادات
الكردستانية لا تخص الكرد الفيليين بمعاملة متميزة تنسجم مع حجم المآسي التي
تعرضوا لها بسبب تهجيرهم القسري من العراق متناسين حقيقة واضحة المعالم هي أن
تضحيات الفيليين لا تستوجب بأي مقياس معاملتهم على نحو تفضيلي في إطار سياسات
تلك القيادات من مجموع الفئات التي يتكون منها الشعب الكردي بوجه خاص والشعب
لعراقي عموما. وأخيرا، الترويج لمقولة مفادها أن القيادات الكردستانية وضعت
خطا أحمر لا يمكن تجاوزه على تشكيل حزب سياسي للكرد الفيليين، بمعنى أن من
المحرم على الفيليين تشكيل حزب سياسي.
وقد وجدت من الصعوبة بمكان إقناع الفيليين بعدم صواب المقولة الأخيرة
ومنافاتها للمنطق السليم. ذلك أن الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق قد
دعما إنشاء أحزاب سياسية كردية أخرى في كردستان العراق عاملة على صعيد
الإقليم بظل نظام سياسي ديمقراطي تتفاعل من خلاله أحزاب عديدة وهي ممثلة في
برلمان كردستان.
أما بصدد تشكيل حزب سياسي كردي فيلي فالأمر مختلف من وجهة النظر التالية وهي
أن من غير المنطقي أن تساعد القيادات الكردستانية أو تدعم قيام أحزاب سياسية
ذات هوية نوعية عشائرية. فهما لا يشجعان من حيث كونهما حزبين قوميين على
تشكيل أحزاب تسمي نفسها على سبيل المثال الحزب الديمقراطي البهديناني أو حزب
الإخاء السوراني أو الحزب الاشتراكي الفيلي. وهذا أمر طبيعي لدى الأحزاب
الوطنية التي تستهدف توحيد فئات الشعب في إطار هوية قومية واحدة.
سادسا:
النتائج
ألف- انتشار مشاعر الإحباط في أوساط الفيليين
في الداخل جراء تلكؤ السلطات الجديدة لاعتبارات عديدة في الالتفات جديا نحو
إيجاد حلول عاجلة ومناسبة لقضاياهم،,ومن ثم فشل العائدين من بلدان المهجر في
بناء حزب أو أحزاب سياسية تحظى بثقتهم وتتولى وفق آليات العمل الديمقراطي
استعادة حقوقها المغتصبة من قبل السلطة السابقة والإسراع في إنهاء معاناة
الفيليين الناشئة عن التهجير القسري لمئات الألوف منهم و نزع الجنسية
العراقية عنهم ومصادرة ممتلكاتهم المنقولة (الأموال والمصوغات الذهبية
والفضية) وغير المنقولة ( البيوت والأثاث والمتاجر غير ذلك).والكشف عن مصير
ضحاياهم وإنصافهم وتعويض ذويهم.
باء- وعلى الرغم من أن غالبية الذين تصدوا
للعمل السياسي باسم الكرد الفيليين هم من المغتربين في أوروبا إلا أن عشرات
الألوف من الفيليين المقيمين في بلدان المهجر، استجابوا بأعداد قليلة نحو
الالتفاف حول تلك التنظيمات. أما الأغلبية فقد اكتفت بمتابعة أخبارها عن بعد.
وحيث سرعان ما تكاثرت تلك التنظيمات وولدت مسميات جديدة لكنها انعزلت جميعها
عن الفيليين في الخارج ولم تحرز النجاح المطلوب بين الفيليين في الداخل.
وانعكست الحصيلة النهائية لجهود تلك التنظيمات في النتائج التي أفرزتها
الجولة الثانية من الانتخابات ، حيث فشل مئات الألوف من الفيليين في الداخل
والخارج في إرسال نائب واحد عنهم ولهم إلى البرلمان العراقي. وفي الواقع فقد
توزعت أصوات الناخبين الفيليين في الداخل والخارج على الأحزاب العراقية
والكردية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في ما يمكن تسميته "بفضيحة"
التصويت لصالح مرشحي ولاسيما قائمة التحالف الكردستاني جراء إهمالها للمعالجة
السياسية الحكيمة للمسألة الفيلية في بغداد وحواضر الوسط والجنوب بما كان
يستلزم بالضرورة أن يسبق كونفراس أربيل بأشهر عديدة عمل تحضيري واسع النطاق
لمساعدة النخب الفيلية في الداخل والخارج من المؤهلين فكريا لبناء حزب سياسي
من الطراز الحديث، وعمليا للتفاني في خدمة الفيليين بنكران ذات وشفافية ورسم
سياساته من خلال الربط العضوي السليم بين الانتماء القومي للأمة الكردية
والانتماء الوطني للشعب العراقي. والمخلصون في مشاعرهم ومدركون لدورهم
الوطني. وهم الذين يرون اليوم ضرورة تنظيم قواهم السياسية من أجل تمثيلهم في
الجمعية الوطنية –البرلمان العراقي_ وتعبئة جهودهم الاقتصادية والاجتماعية من
أجل النهوض بالشريحة العراقية من الفيليين الواقعة جغرافيا خارج إقليم
كردستان العراق
ثامنا:
ما العمل ؟
ما زالت عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية متعثرة في البلاد منذ تحريرها
في 2003. وفي مثل هذه الظروف الصعبة التي تواجهها الدولة الجديدة تتركز
الأنشطة على القضايا التي تتصدر قائمة الأولويات، وتتراجع بالضرورة الأنشطة
المتصلة بغيرها رغم أهمية الأخيرة وطابعها الملح. وقد مرت دول ديمقراطية
عديدة وشعوب كثيرة بمثل هذا الحالات الاستثنائية من حروب التدخل الخارجي
والعصيان الداخلي، واضطرت لمواجهة ظروف تماثل الظروف التي يواجهها الشعب
العراقي اليوم.
ويستلزم النظام الديمقراطي بظل السلم الاجتماعي وتنفيذ خطط التنمية توافر
آليات بيروقراطية متكاملة حتى تستطيع السلطة التنفيذية تفعيل القرارات التي
تتخذها السلطة التشريعية في كل ما يتعلق بالاستجابة لاحتياجات و المواطنين
وحقوقهم.
وللمواطنين العراقيين من الكرد الفيليين حقوق ومطالب تصنف ضمن المطالب
الأساسية للشعب العراقي ككل نظرا لأن عمليات تهجيرهم من العراق بالقوة يكسبها
صفات تجعلها بموازاة المآسي التي تعرض لها العراقيون جميعا إبان حكم البعث
العراقي من جهة تمنحها الأولوية، وهي في ذات الوقت من بين المطالب ذات الصلة
بحقوق مجموعة صغيرة نسبيا من سكان العراق. وهذه الازدواجية في تقدير أهمية
الاستجابة لمطالب الفيليين تجعل من تلك المطالب ذات أهمية ثانوية على سلم
الأولويات التي تتصدى الدولة والأحزاب السياسية المشاركة في البرلمان
لمعالجتها في الوقت الذي تتمتع فية بأهمية قصوى لديهم وتعرقل مشاركتهم في
العملية السياسية، وتحول بينهم وبين التفاعل الايجابي مع الحركة الوطنية
والكردستانية العراقية.وأن وجود حزب سياسي يعبئ قوى الفيليين هو الأداة
الوحيدة القادرة على منح الأولوية لمطالب الفيليين وتحقيقها.
ومن هذه الحقائق الواقعية تبرز أهمية:
1- نشر الوعي السياسي وتنميته في أوساط الكرد الفيليين
ولاسيما في الداخل بحقوقهم ودورهم المنتظر في إسناد الحركة الوطنية
والكردستانية العراقية ودعم كفاح الشعب العراقي من أجل صيانة مكاسبه الوطنية
المتمثلة في حماية دولة النظام الديمقراطي التعددي والفيدرالي الجديدة.
2- إسناد الأحزاب الديمقراطية والكردستانية العراقية جهود الكرد الفيليين في
بغداد وسائر مدن الوسط والجنوب من أجل الارتقاء بمنظماتهم الاجتماعية وتعبئة
قواهم الفاعلة لتأسيس حزب سياسي يمثلهم في البرلمان العراقي ويعبر عن مشاركة
مئات الألوف من المواطنين من الكرد الفيليين في العملية السياسية ، ويرفدها
بقوى ظلت حتى الآن مهمشة على الرغم من الارتباط العضوي الوثيق بين مصالحها
المباشرة و الأهداف التي تسعى الحركة الوطنية والكردستانية نحو تحقيقها
لإنقاذ الشعب العراقي من مخلفات العهد السابق وفتح آفاق الحرية والديمقراطية
والتنمية والسلم لجبله الحالي وأجياله المقبلة.
3- كما تتطلب هذه الحقائق الواقعية مبادرات ملموسة من
جانب السياسيين من الكرد الفيليين العاملين في صفوف الأحزاب العراقية الوطنية
والكردستانية لمساعدة النخب الفيلية التي تسعى نحو تأسيس حزب سياسي للفيليين
لا يحمل هوية قومية عشائرية بل طابع المنظمة السياسية الوطنية. حزب سياسي
يصطف في البرلمان العراقي إلى جانب الكتلة الوطنية الديمقراطية ويعمل على
النهوض بواقع الشريحة الفيلية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. حزب سياسي يتسم
نشاطه بالشفافية، معتمدا على التمويل الذاتي ، وعل عنصري التفاني في خدمة
الشريحة الفيلية ونكران الذات نهجا في العمل.
الخلاصة:
إن وحدة الكرد الفيليين وتعبئة قواهم في إطار حزب سياسي أصبحت ضرورة سياسية
ملحة من منظور الظروف الصعبة الراهنة التي تمر بها البلاد، وفي إطار آليات
العمل الديمقراطي البرلماني والتنافس الديمقراطي بين ممثلي الفئات والطبقات
والجماعات الاجتماعية والثقافية والعرقية التي يتكون منها الشعب العراقي.
وإذا ما كانت وحدة الفيليين أمانة مودعة لدى مثقفي الكرد الفيليين في الخارج
والداخل تدعوهم للعمل الحثيث والمبادرة إلى بناء علاقات وثيقة مع مثقفي
الداخل ومساعدتهم ماديا ومعنويا لتسهيل وإسناد جهودهم في تشكيل حزب سياسي
يمثلهم في البرلمان العراقي ويتسم بالشفافية والتفاني في خدمتهم، فهذه الوحدة
المنشودة تبقى بحاجة ماسة للحصول على الترحيب والدعم من جانب القيادات وقواعد
الأحزاب الوطنية العراقية ولاسيما والكردستانية التي تسعى إلى قيام نظام
ديمقراطي تعددي وفيدرالي في عراق يزدهر بموارده الطبيعية والبشرية وبتنوع
ثقافته الوطنية وقومياته المتآخية بظل الأمن والسلم الاجتماعي.
zuhair@libero.it
|