هل صبركم صبر أيوب ايها الكرد الفيلية؟

أ. د. كاظم حبيب

 

منذ أن اُعتقلت في العام 1955 ببغداد وأودعت التحقيقات الجنائية الواقعة على ضفاف نهر دجلة الخير للتحقيق وأنا اسمع بعذابات الكرد الفيلية. حينذاك كان هناك مواطن كردي فيلي اسمه, كما بقي في ذاكرتي, جعفر نزر. كانت التحقيقات الجنائية تعتقله أكثر من مرة في السنة لنشاطه السياسي وترحله مخفوراً بصحبة شرطيين إلى البصرة ومنها إلى المحمرة حيث يُسلم يداً بيد إلى الشرطة الإيرانية. بعدها يعود الشرطيان العراقيان إلى البصرة ثانية ويتوجها صوب مقهى في وسط المدينة لتناول الشاي والراحة قليلاً قبل المغادرة والعودة إلى بغداد. وما أن يجلسا على مصاطب المقهى حتى يشاهدا جعفر نزر جالس في ركن من المقهى قبليهما يحتسي الشاي وكأنه كان ينتظرهما. وكان الطريف في الأمر أن الشرطيين الطيبين يجلسان إلى جانبه ويدفع عنهما ثمن الشاي ولا يعتقلانه ثانية بل يغادران معه سوية إلى بغداد بالقطار ويذهب كل منهم إلى حال سبيله, هما إلى مركز الشرطة وهو إلى داره ولا يخبران عنه. كان جعفر كالعادة يدفع رشوة بسيطة للشرطة الإيرانية فيطلقون سراحه ليعود حالاً إلى البصرة فبغداد ليواصل عمله السياسي مع رفاقه في الحزب الشيوعي العراقي ضد سياسات نوري السعيد. كان هذا ايام زمان!    

حينذاك وفي العهد الملكي كانت للكرد الفيلية معاناتهم, ولكنها لم تكن شديدة حقاً, ولم تختلف كثيراً عن معاناة بقية أبناء وبنات الشعب العراقي, ولكنها كانت معاناة على أية حال.

والحاكم الوحيد الذي قدرهم حق قدرهم الكبير واعتز بهم كاعتزاز الناس الطيبين من العراقيات والعراقيين بهم كان الزعيم الركن ورئيس وزراء الجمهورية الأولى عبد الكريم قاسم. عند استقباله وفداً منهم أشار قاسم: أن الكرد الفيلية هم من أصل أهل العراق.... وكان لهذا الاعتراف الصادق والسليم معناه العميق والخاص في نفوس الكرد الفيلية وفي القانون الدولي وفي لوائح الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والوثيقة الخاصة بسكان أصل أهل البلاد, إذ أن لهم حقوقهم المشروعة والثابتة والتي لا يجوز التجاوز عليها, علماً بأن الكثير من التجاوزات قد حصلت ولا تزال تحصل في كثيرة من دول العالم على الناس الذين يطلق عليهم صواباً بأصل أهل البلاد, كما في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا واستراليا ...الخ. ولهذا السبب وغيره لم ينس الكرد الفيلية الزعيم عبد الكريم قاسم في وقت المحنة المشتركة ودافعوا عن الجمهورية العراقية وعنه دفاع الأبطال واستشهدوا في سبيل الوطن وضد الفاشست الأوباش ممن شاركوا في الحرس القومي وقيادة البعث حينذاك والذين مرغوا جباه الشعب العراقي بالتراب وأغرقوا الشعب بالدم والدموع وفتحوا أبواب السجون لمزيد من البشر, ومنهم شخصيات بارزة مثل الدكتور عبد الجبار عبد الله والأستاذ إبراهيم كبة والدكتور محمد سلمان حسن وسلام عادل وجمال الحديري والعبلي وعوينه وعبد الجبار وهبي والكثير ومن الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين وأنصار عبد الكريم قاسم والمئات والألوف من البشر من مختلف القوميات والديانات والمذاهب, وبينهم الكثير من الكرد الفيلية. إن ما حصل أثناء وبعد انقلاب 8  شباط عام 1963 الدموي يفوق كل العذابات التي تعرض لها الكرد الفيلية حتى ذلك الحين. فهل كان سقوط البعث في تشرين الثاني 1963 خاتمة فعلية لعذاباتهم؟ لا ابداً, فالقوميون الشوفينيون بقيادة عبد السلام محمد عارف وحزبه الاتحاد الاشتراكي ورهطه قد ساروا على نهج البعثيين نفسه في موقفهم المخزي العام من الكرد الفيلية. واستمر الموقف الكاره لهم والحاقد عليهم فترة حكم القوميين إلى أن وصل البعثيون ثانية إلى السلطة في تموز 1968, وكانوا هذه المرة يحملون معهم مشروعا عدوانياً ضد الشعب الكردي عموماً والكرد الفيلية خصوصاً, إضافة إلى  عدوانيتهم الموجهة ضد كل الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين والخيرين والطيبين من أبناء وبنات الشعب العراقي. ونفذوا ذلك وفق مخطط إجرامي بدم بارد, ولكن انتهى بهم الأمر إلى مستنقع التاريخ وبئس المصير!

بدأ البعثيون بعمليات التهجير القسري للكرد الفيلية بعد وصول الخميني إلى السلطة واحتل موقع ولاية الفقيه وسرق مع بقية الملالي السلطة من أيدي الشعب وقواه السياسية: فدائيي خلق وتودة ومجاهدي خلق والأحزاب البرجوازية الوطنية. ثم تفاقمت هذه الحملة قبيل الحرب العراقية-الإيرانية بحيث توجه الحكم إلى اعتقال شباب الكرد الفيلية وزجهم في السجون وترحيل النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمرضى منهم أيضاً إلى إيران بعد أن سلبهم كل أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحلي النساء والأطفال عبر مناطق حدودية مليئة بالألغام. لقد قتل النظام البعثي الصدامي الكثير من الشبيبة الكردية الفيلية في السجون أو أرسلهم إلى الموت في جبهات القتال الأمامية مع إيران فاستشهد الكثير منهم ودفنوا مع من قتل منهم في السجون في مقابر جماعية لا يُعرف عن الكثير منهم شيئاً حتى الآن. وفي ذات الفترة هجّر الكثير من العرب الشيعة بذريعة التبعية الإيرانية, كما هجًّر بالقوة والقسر الكثير من أتباع القومية الفارسية الذين عاشوا في العراق وحصلوا على الإقامة أو الجنسية العراقية بدعوى كونهم يشكلون حصان طروادة لصالح إيران في العراق.

 

لقد عانى الكرد الفيلية الكثير من القهر والذل والضيم وهم في إيران بسبب الفقر والجوع والحرمان, إذ لم يكفِ ما عانوه في العراق ليتسلط عليهم الحرس الثوري الإيراني ويذيقهم في معسكرات اللجوء الضيم الكثير. وأجبر الكثير منهم على مغادرة إيران والعيش في الشتات العراقي في أنحاء كثيرة من العالم. كما كان منهم الكثير الذين شاركوا في حركة الأنصار الشيوعيين والپيشمرگة الکردية في كردستان العراقي في الكفاح المسلح ضد نظام البعث االاستبدادي.

 

واليوم يواجه الكرد الفيلية الحرمان أيضاً في إيران بسبب الغلاء الفاحش في إيران وسوء الأوضاع المعشية للسكان عموماً والمساعدات القليلة التي تمنح لهم من الحكومة الإيرانية التي تعتبرهم من أهل العراق وليسوا من أهل إيران, وهو صحيح طبعاً. والحكام في إيران لا يعرفون الرحمة ولا يشعروا بعذابات هؤلاء الناس المهجرين قسراً إليها.

وبعد سقوط الدكتاتورية في العراق, ورغم ادعاء الجميع بتبني قضية الكرد الفيلية, لم يتحقق لهم شيئاً إيجابياً سوى الوعود المعسولة, إضافة إلى الحكم الجنائي المهم والجيد الصادر بحق المجرمين الذين ارتكبوا الفظائع ضد الكرد الفيلية من محمكة الجنايات واعتبار الجرائم التي اُرتكبت ضدهم "جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية". وهو قرار إيجابي وجيد. ولكن ماذا بعد؟ لا أحد أبدى الاهتمام الكافي بهم وبمشاعرهم وحقوقهم المغتصبة منذ السنوات الأولى للعقد التاسع من القرن العشرين إلى الآن. إذ كلما كانوا يطالبون بحقوقهم, يوعدون بها خيراً ولكنهم كانوا لا يعودوا من جديد إلا بخفي حنين أو "العشه خباز", كما يقول المثل الشعبي.

 

قوى التحالف الكردستاني أهملتهم كثيراً, فاشتكوا منها, الشيعة أهملوهم أيضاً, وسعى مقتدى الصدر لإحتوائهم! فمن يا ترى يأخذ قضية الدفاع عنهم؟ لم يبق لهم سوى الحزب الشيوعي العراقي وبعض الشخصيات الوطنية العراقية, وهم لا يستطيعون تحقيق مطالب الكرد الفيلية سوى الكتابة عنهم ونشر الظروف الصعبة التي تعيش فيها هذه المجموعة البشرية المهمة والكبيرة من سكان العراق وبُناته.

 

ولكن, وأخيراً التفت إليهم السيد رئيس الجمهورية العراقية فصدر قرار عن رئيس الوزراء بتشكيل مكتب خاص في شؤون الكرد الفيلية لدى رئاسة الجمهورية وباقتراح من رئيس الجمهورية. وهو أمر إيجابي إذ قيل قديماً: حين يكون لديك قانون في قضية معينة يمكنك أن تتمسك به وتناضل من أجل تحقيق مضمونه, وأن يأتي القرار متأخراً خير من أن لا يأتي أصلاً!

أصبح للكرد الفيلية مكتب خاص في رئاسة الجمهورية يترأسه الصديق الأستاذ عادل مراد, عضو قيادي ومجرب في الاتحاد الوطني الكردستاني وسفير سابق في رومانيا وكاتب في آن. فماذا يمكن لهذا المكتب أن يحققه للكرد الفيلية؟

 

للأخ الدكتور عادل مراد معرفة جيدة بالكرد الفيلية, وهو منهم أساساً, وبالتالي فهو عليم بمشكلاتهم الملموسة وحقوقهم المغتصبة ومطالبهم العادلة. ولهذا لا أحتاج إلى إعادة ذكر تلك المطالب, بل إن ما اراه مناسباً الآن هو البدء السريع بوضع القوانين الضرورية والإجراءات اللازمة للمصادقة عليها وتنفيذ تلك المطالب التي نادوا بها منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة, أو تحريك ما موجود من قوانين وإجراءات معطلة لإنجازها.

 

ارجو أن لا يتأخر العمل لصالح الكرد الفيلية, واتمنى ان يلعب المكتب دوراً فعالاً في جمع كلمة الكرد من خلال الاستجابة لمطالبهم العادلة والمشروعة وان يكون مكتباً فعلياً وفعالاً لكي لا يبدأ الكرد الفيلية بالشكوى مجدداً لأن المكتب لم يلب مطالبهم المشروعة.

 

إن أجهزة الدولة هي الطرف الأكثر إعاقة في تنفيذ مطالب الكرد الفيلية العادلة والمشروعة بسبب الفساد السائد في الأجهزة الإدارية وسوء الإدارة والمواقف القومية الإيديولوجية المعادية للكرد الفيلية والرشاوى العالية التي يطالبون بها ويتقاضونها فعلاً من أجل الحصول على شهادة الجنسية العراقية التي يستحقها فعلاً, (400 دولار حد أدنى لكل شهادة جنسية لكردي فيلي). والأمثلة كثيرة وموثقة في هذا الصدد واسماء المسؤولين القابضين لتلك الرشوات معروفة لكل كردي فيلي تسلم شهادة جنسيته وجنسية أطفاله خلال السنة المنصرمة. وكذا الحال بالنسبة لمشكلات الأموال المنقولة وغير المنقولة وقضايا الشهداء والتعويضات ومنازعات الملكية ... الخ.

أتمنى على المكتب ورئيسه الأستاذ عادل مراد أن يبدأ بالعمل وينتهي منه قبل نهاية دورة السيد رئيس الجمهورية إذ لا يعرف الإنسان ما سيجري في العراق قبل أو بعد ذاك.

 

الكرد الفيلية صبروا صبر ايوب وأكثر, ولا يجوز لهم أن يصبروا أكثر فلهم الحق بالاحتجاج والاعتصام والتظاهر السلمي مطالبين بحقوقهم المشروعة حين يشعرون بأن هناك من لا يريد الاستجابة لتلك المطالب العادلة ويعطل تحقيقها لأي سبب غير مشروع كان, وعلى المكتب أن يتناغم معهم في ذلك ويساندهم. وهو ما ينتظره الجميع. لا يحق لمن يطالب بحقه ان يصبر صبر أيوب إذ عندها يضيع الحق واصحابه في آن.

27/1/2011
 كاظم حبيب

Back