محنة كوردنا الفيلية..... مأساة مستمرة
 

صفوت جلال الجباري
 

قاوم أيها الفيلي ، قاوم حصارك ومحاصريك ، أعداءك ومداهنيك ، قاومهم في مملكة حزنك  المحاصر بقوانين جديدة لقديم يتجدد ، قاوم فانه قدرك أن تكون وحيدا رغم ادعاءات إخوة الدم والمذهب ... ستقاوم وحيدا وفي وحدتك يتوحد وينتسب من يشعر بوخز جراحاتك , أكان ابن الجبل اوالاهوار ، لا فرق, مادام الألم الإنساني مشترك اللغة، ما دام عمق جراحاتك يحرك ويهز المشاعر لمن تبقى لديهم بقايا مشاعر لم تلطخ بهوس المنصب والجاه المزيف...... قاوم وحيدا ففي ثنايا جرحك شرفاء ترى فيهم الوطن المفتقد والمؤجل رغم انهيار الصنم.
****** ******* ******
سهلة هي المعادلات في عيونكم لأنها واضحة كجرحكم ، عميقة كانتمائكم إلى ارض انتم من عمّرها ، اتركوا لشفاه جراحكم عفوية الحديث كما سمعته في حسينية الإمام السجاد في ستوكهولم .
***** ***** *****
في حسينية الإمام السجاد .....سمعت القاضي زهير كاظم عبود وفي صوته مشترك الحزن العراقي الشريف من أخ لم تلده أمك وهو أفضل بكل الأحوال من دعاة إخوة المذهب والدم, اللذين كافحتم من اجلهم دهورا ونسوك في محنتك وحيدا متشردا, ولم يتذكروك إلا مرة واحدة حينما أضحيت رقما انتخابيا في مدن الوسط العراقي وفي مؤتمر زائف أسموه( مؤتمر اربيل من اجل كوردنا الفيلية) ... إنهم تمرسوا بدغدغة عواطفكم والرقص على أشلاء ضحاياكم وكتابة القصائد عن انفالاتكم ، ومن بقي منكم حيا عليه أن ينتظر المعجزات او ان يشكر مرحليه ومشرديه .

الضحايا وأحفادهم تواجدوا من خلال صوتهم البائس والعنيد في حسينية السجاد ، ثكلى وأرامل مفجوعات من كوردنا وأهلنا الفيلية يتحدثون عني وعنك وعن الإنسان المعذب في هذا الكوكب الفسيح الذي يرفضهم كوردا وشيعة.... لأنهم الإنسان الآتي رغم غبار الحضارة ويباب الأفكار . **** ***** ****

حسينية السجاد في ستوكهولم، التي جمعت الإحزان الفيلية التي هبت دفعة واحدة كي توثق الجريمة ،وكان القاضي زهير كاظم عبود,العربي الشهم ابن الجنوب البار , والبار لكوردنا المظلومين والمنسيين من فيليين وأيزديين وزرادشتيين وشبك ,تلكم الفروع بل الأصول المنسية من شجرة شعب ميديا.

جاء القاضي ، ليس بدافع وضيفي أو مادي ، بل طوعا وخدمة لينسج الفكرة الإنسانية و لكي يوآخي الأحزان وينظمها في عرائض قانونية بغرض عرضها على المحكمة الجنائية العليا الخاصة بمحاكمة طغاة البعث البائد, تلك المحكمة التي هي عاجزة لدوافع مادية من إرسال مندوب عنها إلى ستوكهولم لتوثيق إفادات وشكاوى كوردنا الفيلية المتضررين من حملة الأنفال الأولى التي بدأت بهم عام 1980 واستمرت متلاحقة بعد ثمانية أعوام ، وبطبيعة الحال قياداتنا الكوردية وحكومة إقليم كوردستان أيضا عاجزة عن توكيل محامي او قاضي للقيام بالمهمة لأنها أيضا تشكو من (ضيق اليد وقلة الموارد!!!!!).

كنت معجبا بسعة صدر القاضي زهير وتفاؤله باستحصال حقوق هؤلاء المظلومين والقصاص من القتلة,ولو إن قناعتي كانت غير ذلك تماما وخاصة تجربة محاكمات الأنفال الأخيرة أثبتت إن بعضا من قياداتنا القابعين في بغداد وهم بالتأكيد(غير مكلومين بفقد فلذات كبد او اقرباء) كهؤلاء الضحايا في محرقة صدام , ولذا فهم غير متحمسين لانزال القصاص العادل بهؤلاء المجرمين وان بعضهم بات يدافع عنهم ويعمل على تخفيف عقوباتهم او حتى اطلاق سراحهم!!!!!.

كان منظرا رهيبا ما رأيناه يوم الأحد المصادف 11 من شهر تشرين الثاني الجاري في إحدى حسينيات مدينة ستوكهولم......عشرات من النسوة المكلومات من كوردنا الفيلية موشحات بسواد الملبس وبؤس الفؤاد ..... تجمعن بطلب من القاضي الشهم زهير كاظم عبود الذي تبرع مشكورا لتنظيم وإيصال عرائضهن وشكواهن بشكل قانوني وأصولي إلى ممثل المحكمة الجنائية العليا في لندن القاضي (كاظم الشيخ) ليقوم بدوره بإضافته إلى ملفات القضية لإعداد لائحة الاتهامات ضد المتهمين الذين أجرموا بحق هذه الشريحة المظلومة والتي هي متبعثرة في ديار التشرد والغربة من أقصى الأرض إلى أدناها بديلا عن وطن رفض ولا زال يتردد في ان يزودهم بورقة تقول أنهم إنما أبناء اصلاء لهذا البلد الذي شيّد بعرق ودماء آبائهم واجدادهم.... بل هم من أوجدوا هذا الوطن الجاحد والمسخ اسسوه بعد ان كان ولايات عثمانية متناثرة ورفعوه عاليا بعرق جبينهم الشريف وكدّهم وكدحهم وسهر لياليهم , وحينما عمّ الخراب العروبي البعثي في ارجاءه وجدوا انفسهم غرباء بين ليلة وضحاها ,لينطمروا بالنتيجة تحت ركام خرائبها وأزقتها البغدادية والكوتية والعماراتية العريقة التي لا تزال تحمل عبقهم والتي تلوثت بسموم رافعي شعار امة عربية واحدة ذات رسالة فانية المشؤوم وبقايا فكرها التي لم تنتهي حتى بانتهاء عصرها البائد والمظلم......

انأ هنا لا أتكلم عن فقدان انسان في حادثة سير أو صعقة كهربائية او موت عابر..... انا احكي عن تغييب وفقدان أكثر من خمسة آلاف نفس بريئة اغلبهم من الشباب في اعمار الزهور و الذين جمعوا عنوة في ظلمة الليل البعثي الطويل الذي استغرق عدة شهور ليساقوا إلى زنزانات الموت والتعذيب والتجارب الكيماوية من المساكن الآمنة والمدارس والجامعات وثكنات الجيش بحجة واهية ألا وهي التبعية الإيرانية التي كانت تعني كوردنا الفيلية بالتحديد.....

منظر قد يكون مألوفا لأهالي الضحايا لكثرة تكرارها..... أن تقوم امرأة بين الحاضرات بتوزيع أوراق النشاف (الكلينكس) على الموجودات لان فصل البكاء والعويل اللامنتهي واللا متناهي قد بدء .....ولكن الأغرب حقا أن تقوم إحداهن (ام حيدر) وهي امرأة كهلة تجاوزت سنها الستين أو هكذا تراءى لي بأخذ المايكروفون لتنشد أبياتا من شعر شعبي هز كياني (وهي أم وأخت لعدد من الضحايا) لتنشد من نظمها هي كلمات بسيطة متواضعة ولكنها تعبر عن حقيقة وعمق المأساة ...

(اريد انشد اللي يدعون بالغيرة والشرف..... هل عمل بيهم اليهود مثلما عملوا بينا......لو انقتل منهم واحد مجرم قامت الدنيا وقعد وصاحوا برئ وشهيد ....بنظرهم كلهم أبرياء وشهداء ... بس ما واحد حرك ضميره تجاه شهداءنا وقالوا ذوله أبرياء.....الطفل الفيلي يشكر الحكومة العراقية وحكومتنا الكوردية الاقليمية....هديتكم وصلت ياللي نسيتونا وكان أبهاتنا لاحزابكم الوقود و الضحية).

وحينما سمعت المقطع الاخير أرجعتني الذكريات إلى أيام نضالنا الطلابي في اتحاد طلبة كوردستان في جامعة بغداد حينما كان للوجود الكوردي الفيلي القوي والمؤثر دورا متميزا وفعالا..... شباب كانوا مفعمين بالحيوية والنشاط الدؤوب ليل نهار لتنظيم الشبيبة الفيلية في الاتحادات والمنظمات الكوردستانية ..... كان اندفاعهم وتفانيهم يدفعنا نحن شبيبة كوردستان ان نحذو حذوهم خجلا ونحن من ابناء ربوع وجبال كوردستان....ان الذي جعلني أتألم أكثر ، صورة ذلك الشاب الشهيد الذي وضعه احد الأخوة المنظمين للحسينية(الأخ أبو علي الجيزاني) صدفة بجانب الكرسي الذي جلست عليه..... كان احد القياديين في تنظيمات لجنة محلية الثانويات التابعة للجنة محلية بغداد بعد اتفاقية أذار1970 .... كان نشيطا وفعالا..... خانتني الذاكرة في تذكر اسمه بعد مرور أكثر من 35 سنة فسألت الحاضرين عن اسم ذالك الشاب الشهيد لاوثقه في ذاكرتي بعد كل هذه السنين; ولكن احدا من الحاضرين لم يوفق في أن يعرف الاسم ..... وكنت اشعر بألم وخجل كلما نظرت إلى صاحب الصورة الشهيد الشاب الذي كان بدوره يحدق في عيوني وكأن لسان حاله يقول .... حتى أنت يا رفيق نضالي نسيتني كما نستنا القيادات الكوردية لم أتمالك نفسي بذرف دمعة حاولت إخفاءها عن أعين الحاضرين .... والذي اثأر قطرة الدمع أكثر هو صوت إحداهن حيث قالت وبوضوح (نحن لا نريد من حكومتنا في بغداد أو اربيل إلا شيئا واحدا..... أن يدلونا على مصيرهم.... قبورهم فقط..... لا نريد إجراء مراسيم أو إرسال وزراء بحثا عنهم وجلبهم كما فعلوا مع الضحايا من البارزانيين(وهم يستحقون كل تكريم) ولكننا نريد فقط أن نعرف في أي ارض تم وأدهم وطمرهم.. وأنا أيضا تساءلت بين وبين نفسي......هل سيوفي قادة كوردستان بوعودهم بأنهم سيجلبون ويسلمون رفات ضحايا عمليات الأنفال الى ذويهم, بدءا من أنفال الكورد الفيلية ومرورا بأنفال كرميان وانتهاء بأنفال بادينان وهل سيقيمون لهم متحفا يضم بعض من بقاياهم كما فعل الشعب اليهودي لضحايا الهولوكوست النازي ....

 لتتذكر ألأجيال المقبلة ما جرى في حقبة زمنية يفترض بأنها قد انتهت في ساحة الفردوس, حينما كنت اطلع مع الزميل الكاتب دانا جلال في متن بعض العرائض التي وصلت الى القاضي من الحاضرين استرعى انتباهنا نص كتاب رسمي صادر عن ما كانت تسمى بمحكمة الثورة , لا ادري كيف حصل عليها احد أهالي الضحايا ..... والكتاب الرسمي كانت تتضمن قائمة بأحكام إعدام صادرة بحق الضحايا من الشباب الفيلية وموقعة من قبل المجرم المقبور (عواد البندر)واثنين من مساعديه من الجلادين ( العقيد الحقوقي داوود سلمان شهاب والمقدم الحقوقي طارق هادي شكر) وكانت القائمة المشئومة تتضمن أسماء 66 شهيدا كورديا فيليا وكلهم حكموا بموجب المادة 156 والمادة 49 ,هكذا وبالجملة وهذا العدد يمثل كما ضئيلا من الذين طالتهم أحكام البعث الجائرة وهذه فقط تمثل حوالي نصف عدد من تم اعدامهم في قضية الدجيل الذي بموجبه تم إصدار وتنفيذ أحكام الإعدام بالطاغية وشلة من جلاوزته!!!!!,وكانت كل عريضة بحد ذاته عبارة عن قصة مأساة حقيقية تقشعر لها الأبدان , احدها تحكي عن مصير الجندي الذي اخذ من جبهات القتال مع ايران وسيق الى الاعدام مباشرة ,والأخرى ذهب إلى دائرته ولم يعد أبدا ,والثالثة شاب فيلي كان يعمل في الكويت وتم تسليمه الى السلطات العراقية واعدم!!!., وهذه امرأة تريد معرفة مصير زوجها وثمانية من ابناءها!!!!.....

 أي ظلم ارتكب بحق كوردنا الفيلية .... وكنت اقول بيني وبين نفسي وانا اتصفح بعضا من هذه العرائض التي كانت كلها تقطر دما ودمعا وألما .... كيف استطاعت هؤلاء النسوة ومن بقي من هذه العوائل تحمل كل هذه المصائب مجتمعة إضافة إلى مشكلتها المعروفة في الترحيل إلى إيران والسير بين حقول الألغام والعيش في مخيمات البؤس طيلة هذه السنين العجاف .....وأين هي دور وموقف القيادات العراقية وقبلها القيادات الكوردية من هذه المآسي ..... ومتى سأجد مسئولا كوردستانيا يقف ويتفاخر أمام الكاميرات بأنه سيرجع الحقوق المادية والمعنوية المغتصبة لهؤلاء الضحايا بدلا من التفاخر بتحويل كوردستان إلى دبي مزيفة كما يدعون!!!!!!!!

 

Back