ثورة 14 تموز / عام 1958 الخالدة ... غيبها النظام البائد ... وأحيها الشعب الناهض
 

ريـاض جاسـم محمـد فيلـي

riyadhfaylee@gmail.com

 

     خلال خمسة وثلاثين عاماً عجافاً من عمر النظام الفاشي بفضل سياساته الطائفية المقيتة حاول أثناءها محو تاريخ ثورة 14 تموز المجيدة / عام 1958 ومنجزاتها العظيمة وتراثها الزاهر رغم حكمها القصير بسفرها الخالد وقائدها أبن الشعب البار الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم الباقي في ضمائر الشرفاء العراقيين وخاصةً الفقراء منهم ، وكيف لا والبعث البغيض بنفسه الشوفيني العنصري قد شارك في إغتيال الثورة الوطنية وقتل أبطال ملاحمها وأستباحة المواطن العراقي ورحه الطاهرة في أنهار متدفقة من الدم منذ أنقلاب 8 شباط الأسود / عام 1963 المؤجور من القوى الإقليمية والدولية والذي صادف وقوعه في شهر هجري محرم ... فرمضان بريء كبراءة الذئب من دم يوسف وكل ما أرتكبه من مجازر رهيبة وإنتهاكات فضيعة بفضل أحقاده الدفينة خاصةً بوجه من يعترض عليه والمتمثلة بصدور البيان رقم (13) السيئ الصيت والمشؤوم والذي لم يكن موجهاً إلى فئة سياسية معينة ، بل كان بمثابة إعلان أبادة جماعية موجه ضد الشعب العراقي ومكوناته المتعددة بعربه وكرده وتركمانه وأقلياته كافة ، ولتذهب من جراء الأنقلاب النازي الآلاف المؤلفة من الضحايا البريئة دون ذنب أو جرم أو عبر محاكمات صورية شكلية بعيدةً حتى عن الأحكام العرفية ذاتها ، ولتملئ والساحات والشوارع والأرصفة والأزقة بالجثث المكدسة بعضها فوق البعض منذ ذلك الوقت ومستمرة لحد الآن على الرغم من سقوط النظام العفلقي الصدامي في 9/4/2003 فأيتامه وفلوله المنهارة متواجدين وثقافته الإجرامية الإرهابية المتشبعة بالفكر الإستبدادي الشمولي سائدة خلال أربعة عقود مضت ، وخير دليل على ذلك ما أصدره الزعيم المقبور صديق مصطفى من أوامر وتوجيهات وأشرافه بنفسه على تنفيذها بالحرف الواحد أثناء قيادته للعمليات العسكرية في مناطق كردستان ، ولتشكل بحق بداية الطريق إلى حملات الأنفال والقصف الكيماوي بمراحلها الأولية وحتى كتاب

 

السماء لم يسلم أيضا بإطلاق أسم أحدى سوره كتسمية لمصطلح الأبادة الجماعية المعتمدة ضمن قاموس البعث الدموي والتي شملت (182000) كردي مفقود وتهديم أكثر من (5000) قرية كردية وبجرة قلم من الطاغية المهزوم صدام حسين ، فكل ذلك لم يجرئ الزعيم عبد الكريم قاسم على فعله رغم ما يتمتع به من صلاحيات وإختصاصات واسعة فهو يشغل مناصب عدة  وهي رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة إضافة إلى تدرجهه الأصولي في ترفيع الرتب العسكرية ، وكان يصرف جميع راتبه على الفقراء والمحتاجين والبالغ (450 دينار) بل أنه لم يتلاعب بمخصصاته السرية المقررة له في قانون الموازنة العامة السنوية طيلة مدة حكمه وهي (4000 دينار) وهو مبلغ ضخم آنذاك وفي يوم أستشهاده لم يكن في جيبه غير دينار واحد وقبل الثورة كان ميسور بشكل أفضل ، بعكس عضو الجمعية الوطنية حالياً الذي يتقاضى راتباً (5000$) + (أجور الحماية والحرس) + (سكن مؤثث في المنطقة الخضراء) + (منحة مالية مقدارها 50000$) + (أمتيازات أخرى سواء كانت عينية أو معنوية كالسفر والإبفاد) ووفقاً لتشريعات نافذة كالقوانين رقم (3) و (13) لسنة 2005 على سبيل المثال .

 

     أن ما حدث يوم 14 تموز / عام 1958 لم يكن أنقلاباً عسكرياً وإنما هو حركة نفذتها قوة وطنية مخلصة لم تعلم الدوائر الغربية وأجهزة إستخباراتها بها إلا بعد ساعات من حدوثها وكأمتداد طبيعي لحركة 29 تشرين الأول / عام 1936  بقيادة الفريق بكر صدقي وقاسم أحد أبنائها وبخلاف ما أوضحه بعض المؤرخين القومجين بأنها أمتداد لحركة مايس / عام 1941 الفاشستية والتي عرضت البلاد لأحتلال جديد ، وأكتسبت تأييداً واسع النطاق في قطعات الجيش وأوساط الشعب قبل وبعد وقوعها لتتحول إلى ثورة حقيقية وبل ما تحمله معاني وتوجهات وأهداف وقيم وعلى مختلف الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتربوية والتنموية ولتكون نقطة تحول وحد فاصل في تاريخ العراق المعاصر بتغيير الحكم الملكي إلى النظام الجمهوري ومن دون رجعة وهذا ما جسده وأكد عليه العراقيين من جديد بأستفتائهم على الدستور العراقي الدائم لعام / 2005 ، وقد شعر المواطن العراقي البسيط بالفرق الإيجابي الكبير متلمساً الواقع الفعلي على الأرض ومهما كان مستواه الثقافي أو التعليمي أو الفكري ومنذ اللحظات الأولى لقيام الثورة العظيمة وتحرك وحدات

 

اللواء العشرين للسيطرة على بغداد وأحتلال الإذاعة في صبيحة ذلك اليوم التموزي الرائع ، فمن خلال سلسلة الإجراءات السريعة والعاجلة التي أتخاذتها حكومة الثورة الوليدة ... عبرت كونها أنها نابعة من الشعب ... جاءت من أجل خدمة الشعب وفي سبيل الشعب ... وبالأخص المواطن المعدوم ذا الدخل المحدود والذي بقي محروماً من أبسط وسائل العيش ليرتقي به المطاف إلى الحياة الحرة الكريمة والذي ولم تلتفت إليه يوماً أي من الحكومات المتعاقبة في العراق أو تعيره أية أهمية تذكر أو تضعه في حساباتها أو خططها ، والآن في ظل العراق الجديد والخارج لتواً من كوراث الحروب والفتن والويلات ومحن الحصارات ما بعد سقوط الصنم وتحطيم أغلال صدام وقيود البعث ، فالإنسان العراقي الذي لفظى نسائم الحرية أخيراً بعد حصول التغيير على يد الغز والأحتلال الأجنبي ... لم يتحسس بأي شيء قط خلال طيلة السنوات الماضية ولو بصيص أمل قد أنملة ، بل من سيء إلى أسوء والبديل ليس بأفضل حال من سابقه نظراً لتدهور الوضع الأمني وتردي الخدمات الأساسية والضرورية بصورة مضطردة لاسابق لها وصاحبه أرتفاع الأسعار وتفاقم أزمة المحروقات والمشتقات المستمرة ( كالأمراض المزمنة بحاجة إلى حصة شهرية بموجب دفتر صحي !! ) في بلد يطفو على بحر من النفط الذي أنقلب عليه نقمة مع تصاعد الجريمة المنظمة ودور المافيات وتفشي المخدرات وتنامي عصابات السب والنهب والخطف والإبتزاز ، إضافة إلى القتل على أساس الهوية والتهجير القسري وغليان التخندق الطائفي والتحزب المذهبي في أعلى درجاته وذروته ، وتصاعد بروز المليشيات المسلحة على حساب القوات الحكومية بدلاً من حصر السلاح بيد الدولة وفقاً للأمر رقم (91) لسنة 2004 المجمع عليه دون تنفيذ ، وأزدياد الأختراقات المتسارعة داخل الأجهزة الأمنية والأستخباراتية وتجاوزات منتسبي الجيش والشرطة على المواطنين وأنتهاكهم لأبسط حقوقهم وحرياتهم بفضل غياب سيادة القانون وعجز سلطة القضاء المستقل من تطبيق أحكامه وفقدان هيبة الدولة في نظر الناس وأستشراء حالات المحسوبية والمنسوبية  والفساد المالي والإداري وفي ظل وجود هيئات دستورية مستقلة كمفوضية النزاهة العامة المشلولة الأطراف والمعصوبة العنيين والمكبة بالسلاسل الحديدية وبالتالي ضررها أكثر من فائدتها ، على النقيض من عبد الكريم قاسم فأنه لم يحتاج لوجود مثل تلك المفوضية الثقيلة بموازنتها وملاكها ، فببساطة كان ضميره

 

اليقض هو الرقيب الحي وبدليل قيامه بإصدار قانون الكسب غير المشروع على حساب الشعب رقم (15) لسنة 1958 في أول أيام الثورة والذي بموجبه فرض على أصحاب الدرجات الوظيفية العليا والخاصة تقديم كشف مالي دوري عن مصادر مدخولاتهم مع أسرهم وفروعهم وكان أول من شمل نفسه به إستناداً نصوص هذا التشريع النافذ إلى زمن صدام إذ تم تجميده بهدف فتح الطريق أمام أزلام النظام وأعوانه ومنتفعيه للإستفادة والمرابحة والمتاجرة في صفقات وعقود ودفع رشوى وعمولات مشبوهة وفي برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء تحديداً،بل أكثر من ذلك فلم يستلم قاسم أية قطعة أرض سكنية رغم كونه أعلى ضابط في الجيش بسبب عزوبته التي بقية نقية حتى الآن ولم يثار حولها الشكوك بشأن علاقاته النسائية خلافاً لما أرتكبه زعماء آخرين سواء في العراق أو غيره وما تتناقله عنهم وسائل الصحافة والأعلام من أفعال وممارسات نتيجة فضائحهم وسلوكياتهم برغم التعتيم والتكتم والسرية ، فبحق كان مقياساً للشهامة والأستقامة والنزاهة التي أرعبت الحكومات المتعاقبة بمجرد ذكر أسم الزعيم أذ لم تصل إلى مستواه في معاملة الرعية والسهر على شؤون الناس وحياة الفقراء والمساكين وتوزيع راتبه عليهم وتفقد أحوالهم ومعيشتهم وأخبارهم بسيارته عبر شوارع بغداد من منتصف الليل وحتى بزوغ الفجر وخيوط الصباح يومياً وهذا ما لم يفعله أي حاكم أخر إلا ظل الدعاية المضللة والإعلان المزيف وهذا ما كان يرفضه الزعيم دائماً وأبداً إذ قال غير ذي مرة لن ترى الصحافة مني قرشاً واحداً لأنه من أصحاب مأثورة تقول ( القافلة تسير ولا يهمها... الخ ) بل لم يكلف نفسه بالرد على تهجمات عبد الناصر ومهاتراته الإعلامية حتى لا ينزل إلى مستواه ، وبالتالي جزء من عوامل سقوطه عدم وجود أعلام يدفع عنه ويقدسه ويمجده كالصحفي محمد حسنين هيكل أنموذجا،ً مفضلا العمل بعيداً عن الأضواء ، وكان صاحب مقولة الرحمة فوق القانون وعفا الله عما سلف فأطلق سراح المتآمرين والجلادين   لينقلبوا عليه وليقتلوا الشعب العراقي بأكمله ، وبالفعل أوفت ثورته بوعودها وتعهداتها رغم عمرها القصير من خلال بمنجزاتها ومكاسبها الوطنية والتي لم تستطع الأنظمة الحاكمة اللاحقة على القيام بقسم منها .

 

     وعندما أعلنت الجمهورية الأولى المباركة وفقاً لبيان الثورة المجيدة الأول جرى تشكيل مجلس للسيادة يقوم بمهام رئاسة الدولة على غرار ما حصل في تجربة السودان الديمقراطية بعد أعلان أستقلاله ، وكان يتألف في عضويته من ثلاثة أشخاص بهدف تمثيل كافة مكونات الشعب العراقي الأساسية وأنشاء حكومة ذات قاعدة عريضة من جميع القوى والأحزاب والتيارات العراقية المعارضة للنظام الملكي في حينها ، وبالضبط تماماً ما هو سائد في العملية السياسية الجارية حالياً في أطار التوافق وحكومة الوحدة الوطنية وكأن الفكرة مأخوذة من ألهام ووحي الزعيم والتي وقف بوجهه الكثير من الشخصيات متعرضاً عليها وبشدة ... والآن يقف من أوائل المتحمسين لها وبشدة أيضاً !! فيالها من مفارقة حقاً .

 

     ولأول مرة منذ تأسيس الدولة الحديثة في عام 1921 أدُخلت حقوق الكرد القومية في صلب دستور الجمهورية العراقية المؤقت والصادر في 27 تموز / عام 1958 من خلال المادة الثالثة والتي تنص على ما يلي : - ( يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة بأحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية ) ، وبالتالي أصبح موروثاً دستورياً أجبر الحكومات المتعاقبة على أدراج نص مشابه ولكن ليس بقوته في دساتيرها المؤقتة ، فدستور عام 1964 قد نصت  أحكام مادته التاسعة عشر المعدلة بعد إتفاق 30 حزيران / عام 1966 ما يلي : - ( العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة بلا تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو أي سبب آخر . ويقر هذا الدستور الحقوق القومية للأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة وطنية متآخية ) ، أما دستور عام 1968 إذ نصت مادته الحادية والعشرون ما يلي : - ( العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة بلا تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين ويتعاونون في الحفاظ على كيان الوطن بما فيهم العرب والأكراد ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية ) ، وعن دستور عام 1970 حيث نصت المادة الخامسة / الفقرة "ب" ما يلي : - ( يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين ، هما القومية العربية والقومية الكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي والحقوق المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية ) ، والمادة السابعة / الفقرة "ب" تنص ما يلي : - (تكون اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية الأكراد بالحكم الذاتي وفقاً لما يحدده

 

القانون )ونتيجةً لكل ما تحصل من تطور دستوري بشأن حقوق القوميات في العراق بفضل ما بذره الزعيم قاسم وصل في نهاية المطاف إلى إقرار النظام الديمقراطي الإتحادي التعددي في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية وتثبيتها في الدستور الحالي عبر الإستفتاء الشعبي العام .

 

     وكان الزعيم عبد الكريم قد دعا الملا مصطفى البارزاني للعودة معززاً مكرماً من منفاه في الإتحاد السوفيتي آنذاك رغم إعتراضات الكثيرين من القومجيين العرب والبعثيين العنصريين ، كما أمر بتخصيص دار له للسكن مع راتب شهري وكذلك للشيخ عبد السلام البارزاني ، ونتيجة لهذا الموقف الجريء والشجاع من قاسم أن دخل الكرد في تحالف أستراتيجي معه ، وأسهم بشكل فعّال في صد وسحق الهجمة الشرسة والرياح الصفراء القادمة من الجمهورية العربية المتحدة زمن ناصر من خلال إيقاف أنقلاب الشواف التأمري المكشوف عند حده والتي وقع في مدينة الموصل الحدباء بتاريخ 8/آذار/عام 1959 وأثناء إنعقاد مؤتمر حركة أنصار السلام وتسبب بقتل المواطنين الأبرياء دون ذنب أو محاكمة من المتأمرين وإستباحة المدينة الآمنة من قبلهم ليخرج بعدها الإعلام العروبي القومجي المؤجور بإمكانياته اللامحدودة بتزييف الأحداث رأساً على عقب ويقلب الأكاذيب إلى حقائق واهمة رسخها في عقول الناس البسطاء الذي لم يكتشفوا الحقيقة المرة إلا متأخراً وبفعل مأ أرتكبه البعث العنصري وأزلامه أثناء حكمه من إنتهاكات غير إنسانية وتجاوزات خطيرة لا مثيل لها منذ زمن هولاكو المغولي ، على أن التحالف بين قاسم والكرد لم يستمر طويلاً  لتغلغل عناصر مشبوهة في أجهزة الدولة وسيطرتها على مراكزها الحساسة فتمكنت من نثر بذور الفرقة وإثارة الفتة علاوة على عوامل عدة أسهمت في تأجيج الموقف وصب الزيت على النار ومنها الأقطاعيين المتضررين من قانون الإصلاح الزراعي، مما مهد السبيل لقيام لحركة أيلول / عام 1961 والقضاء على حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية والألتفاف على الحركة التحررية الكردية كضرب عصفوريين بحجر واحد ، ورغم التجاوزات والإنتهاكات المحدودة التي حصلت من قبل قوات الجيش في كردستان أبان عهد قاسم إلا أنها لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف كان بما حصل ضد الكرد بعد 8 شباط / عام 1963 كنقطة فاصلة بين مرحلتين مختلفتين جذرياً ، ولتشهد مجاز وقبور جماعية وأنفالات وتطهير عرقي

 

وأبادة جماعية وقصف كيماوي وتهديم قرى بأبشع صورها عبر التاريخ الإنساني لا مثيل لها منذ عصر تدوين الكتابة في سلسلة إجرامية لم تنتهي رغم أنهيار النظام العفلقي في 9 نيسان / عام 2003 في ظل وجود أيتام صدام وفلول البعث المنهار الملطخة أيديهم بدماء الشعب العراقي .

 

     ومنجزات ثورة 14 تموز العملاقة لا تعد ولا تحصى ولازلنا نعيش آثارها الطيبة المحمودة الذكر لحد الآن ونستذكر قائدها الفذ بألم وحصرة وندم على فقدانه ونحن في أمس الحاجة إلى أشخاص من أمثاله في عراق اليوم ، فهو الوحيد الذي أراد أن يبني البلاد ويعمرها بعيداً عن الطائفية والمذهبية وإرساء ديمقراطية حقيقية ، إلا أن قوى الشر والظلام والدول المجاورة العربية والإقليمية التي لا تحب الخير للعراق وأهله ومارست هذا الدور القذر في عهد الزعيم قاسم ونفسه تتبعه حالياً بأقنعة مكشوفة ، فهاجس الخوف والهلع مُسيطرة على هذه الأقطار من نهوض العراق وأزدهاره وتقدمه إذ لازالت تتبنى تلك الحكومات الوراثية في عقليتها المريضة المسيطرة عليها نظرية المؤامرة التي عثى عليها الزمن .

 

     وخيرة القوانين والتشريعات سُنت في تلك الحقبة المشرقة والدليل على ذلك هو بقائها نافذةً لحد الآن رغم تعطيلها أو تجميدها ومنها قانون الإصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958 والذي صاحبه العديد من المشاكل بسبب الإقطاع والمغردين خارج السرب محاولين وضع العصي في عجلة التقدم ، وإصدار قانون مراقبة الإيجار رقم (6) لسنة 1958 لإيجاد توازن حقيقي بين طرفي الإيجار في حينها ، وأعادة النظر في كافة قوانين الضرائب ووضع تشريعات للخدمة المدنية رقم (24) لسنة 1960 المعدل والملاك الوظيفي رقم (25) لسنة 1960 وتأسيس الجمعيات التعاونية بموجب القانون رقم (1) لسنة 1960 وتشجيع الإستثمار والصناعة وتأسيس المعامل الأنتاجية وإنتهاج سياسة خارجية سليمة وتوسيع التجارة وتحرير الإقتصاد الوطني من التبعية الإجنبية وتنمية الثروات الطبيعية وإنشاء البنى الإرتكازية والتحتية كالمعامل والسدود والطرق والجسور وجعل فرص العمل متكافئة لجميع المواطنين من دون تمييز وتوفير الدعم الحكومي للقطاع الخاص من غير مصادرة لأموال الأغنياء والإستيلاء عليها وبما يتناسب مع مبادئ العدالة والمساواة الأجتماعية

 

التي قامت من أجلها الثورة مع إستحداث وزارة للنفط وإعادة تنظيم هيكلية مجلس ووزارة الإعمار لتصبح مجلس ووزارة التخطيط بهدف تعجيل وتسريع التنمية الإقتصادية ، والخروج من حلف بغداد وغيره من التحالفات وإلغاء أرتباط العملة العراقية بالمنطقة الأسترالنية إضافةً قيام الزعيم الخالد بتأسيس منظمة الأقطار المصدرة للنفط وعقدت إجتماعها التأسيسي الأول في بغداد / 1960 والتي مقرها حالياً العاصمة النسماوية فينا حيث تعد من أهم المنظمات الإقتصادية الدولية وخاصةً على مستوى البلدان النامية مما أضطر الدول الكبرى إلى إيجاد منظمة موازية لها وهي وكالة الطاقة الدولية وهذا الموضوع غالباً ما يتم تجاهله عن سبق إصرار وتعمد مقصودين كي لا تظهر منجزات الثورة على صعيد السياسة الخارجية والعلاقات الدولية ، وكذلك العمل على توزيع قطع الأراضي السكنية وخاصة على ذوي الدخل المحدود كالفقراء والأرامل وذوي الأحتياجات الخاصة والموظفين مع منح سلف بناء من المصرف العقاري ومواد أنشائية بأسعار رمزية مما أضطر الحكام اللاحقين على أتباع نفس السياسة على مضض ، وتشريع قانون الأحوال المدنية رقم (188) لسنة 1959 والذي يعد بحق ثورة إجتماعية شاملة وضمان حقوق المرآة بأعتبارها نصف المجتمع وتحديد أطار الأسرة وعلاقاتها وأحوالها وتصرفاتها مما كان يعد طفرة نوعية متقدمة جداً على مستوى الدول العربية والشرق الأوسط ومن المفارقات أن صدام بجبروته لم يحاول إلغائه أو المساس به بل جرت محاولة لتغييره بعد سقوطه بموجب قرار مجلس الحكم رقم (137) لسنة 2003 إذ أثار جدلاً حاداً غير مسبوق  جعل من الحاكم المدني الأمريكي يتدخل للإلغاء القرار المذكور وتطور الأمر لوجود نص مشابه يحتاج إلى أعادة نظر  وهي المادة (41) من الدستور العراقي الدائم ، إلا أن أفضل ما توجه الزعيم عبد الكريم قاسم هو إصداره لقانون رقم (80) لسنة 1961 والخاص بتحديد مناطق إستثمار شركات النفط الإجنبية وإنتزاع ما لا يقل عن (99.5%) من الأراضي غير المستثمرة من تلك الشركات الإحتكارية مما ضربها في عقر دارها وفي الصميم ولا ننسى هنا دور العقيد وصفي طاهر المرافق الأقدم لرئيس الوزراء حين كان رئيساً للجنة تحديد مناطق إستثمار النفط وبيده شطب على الخريطة حقول مجنون والرميلة الغنية لتصبح أرض عراقية دون أية

 

سيطرة أجنبية ، وبالتالي ساهمت تلك الشركات المتأمرة المشبوهة في تمويل أنقلابيي شباط / عام 1963 المؤجوريين بالمال والسلاح والدعم اللجستي ، ففي أحدى بياناتهم عبر الإذاعة إذ أشاروا ضمناً تعهداتهم بالحفاظ على مصالح الشركات الإجنبية في العراق في حين ذبحوا الشعب بموجب البيان رقم (13) المشؤوم فيالها من مفارقة عجيبة .. يحافظون على إلتزاماتهم مع الإجنبي الغريب على حساب أبن الوطن !! والجدير بالذكر عندما وقع قاسم على القانون رقم (80) طلب من الوزراء أن يوقعوا معه على قرار إعدامهم على حد وصفه !! مع العلم أن البعثيين يتباهون بقرار التأميم الخالد المزعوم في عام 1972 ونسوا أو تناسوا بقصد أو دون عمد بأنهم تنازلوا لصالح الشركات الأحتكارية عن عشرين مليون طن نفط خام وبموجب تأميمهم الخالد !! (حيث كانت وحدة القياس بالطن وليس بالبرميل وهو أعلى بكثير) ، وفي آخر يوم من حياته المليئة بالعطاء وقع قانون شركة النفط الوطنية والمؤامرة تشد في خناقها على بناية وزارة الدفاع وقد أضطرت السلطة العارفية لإصدار ذات القانون في عام 1964 وكجزء من محو هذا التاريخ .. قام البعثيون بإلغاء شركة النفط الوطنية في عام 1986 رغم فداحة خطائهم بفضل الثورة  الإدارية المزعومة في حينها وإجراءاتها الفاشلة تحت إرهاصات فكر قائدهم المقبور .. فبعد سقوطهم ذكر إعادة تأسيسها مجدداً في مشروع قانون النفط والغاز وتنظيم هيكلية الوزارة المقترحة ، وكل ذلك لا لشيء سوى لشطب أسم قاسم من تراث الشعب العراقي مثل تهديم نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس والتي شهدت أيضاً سقوط الصنم !! وكذلك داره لم تسلم رغم كونها مستأجرة من مديرية الأموال المجمدة لليهود التابعة لوزارة الداخلية ، وحتى محكمة الشعب المعروفة رسمياً بأسم المحكمة العسكرية العليا الخاصة والمشكلة بمقتضى قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم رقم (7) لسنة 1958 والتي ترشق عليها سيل جارف من الأتهامات المغٌرضة من أعداء الثورة خاصة ضد رئيس المحكمة الشهيد العقيد فاضل عباس المهداوي أبن خالة الزعيم والمدعي العام الشهيد العقيد الركن ماجد محمد أمين  فقد كانت أكثر عدلاً وأنصافاً في أتباع الإجراءات الأصولية والقانونية وضمان حق الدفاع للمتهمين وأن كانوا ظالمين وتوكيل محامين عنهم وأهم ما فيها هو أنتهاجها مسلك العلانية في جلساتها ونقلها بالشفافية عبر شاشات التلفزيون ببث مباشر ونشر

 

محاضرها بمجلدات مطبوعة ، ومن كان ينتقدها لم يقم بإنشاء محكمة مثلها بل أسوء منها ولا مجال هنا للمقارنة مطلقاً مع فرق الإعدامات التي نصبت مشانقها في النادي الأولمبي بالأعظمية صبيحة أنقلاب 8 شباط 1963 أو كتصفية رجالات حركة حسن سريع وقطار الموت والمجالس العرفية العسكرية الصورية والعتباطية تحت رئاسة كل من القومجيين المقبورين العقيد شمس الدين عبد الله والعقيد مدحت شاكر السعود ومحاكم أمن الدولة زمن حكم الأخوين عارف ومحكمة الثورة ومحاكم الهيئات الخاصة زمن البكر وصدام وعلى رأسها وما صاحبها من دراما تمثيلية كتصفية شبكات التجسس وتعليق جثث الأبرياء في ساحة التحرير في عام 1969 وبطلها الرئيسي الجلاد العقيد علي هادي وتوت والذي لا يختلف عنه بشيء المعدوم طه ياسين رمضان أثناء ترؤسه لمحاكمات مؤامرة عام 1970 ومن سار على نفس الدرب أمثال مسلم الجبوري وعواد البندر وغيرهم ممن لم يظهروا للعلن .

 

     من كل تلك المآثر الجليلة لفترة مضيئة من تاريخ العراق وتأسيس الجمهورية على يد بطلها الشهيد قاسم وجماعته المخلصة ، كان للشعب الوفي الأصيل وقفة مشرقة لأستذكار تلك الأمجاد التي بقيت خالدة في أذهان وعقول العراقيين ويتوارثها الأبناء من الآباء والأحفاد من الأجداد والبنات من الأمهات ، ولكل ما تقدم فعندما تم وضع مشروع قانون جديد للعطل الرسمية خذفت وشطبت منه جميع المناسبات البعثية والصدامية بإستثناء عيد الثورة ظل شاخصاً لا تهزه ريح أو موج عاتية ... فعادت إحتفالية 14 تموز العيد الوطني تهل علينا من جديد بزوال صنم الطاغية المهزوم لتعود كما كانت سابقاً عرساً عراقياً أصيلاً .

Back