الكرد الفيليون بين المعاناة والاختلاف والتشرذم عبد الستار نورعلي لا شك أن مشكلة الكرد الفيليين في العراق هي إحدى المشاكل التي خلفها النظام الدكتاتوري خلفه ضمن المشاكل الكثيرة والمعضلات والمصائب الكبيرة التي تعرضت لها كافة شرائح وطبقات الشعب العراقي العظيم دون استثناء ، من ظلم واضطهاد وعسف وتشريد وقتل ومصادرة للحقوق والاموال لكن مشكلة الكرد الفيليين تمتاز عن غيرها مما تعرض له الشعب العراقي بأنها ذات خصوصية وازدواجية تدخل فيها دوافع ومنطلقات عديدة من عرقية وطائفية وسياسية واقتصادية استخدمها النظام السابق في اضطهاده لهذه الشريحة وتهجير غالبيتها العظمى الى ايران تحت ذريعة التبعية الايرانية بينما تخفي في باطنها ذلك الخليط من الدوافع الخفية المبرقعة بذلك البرقع الفضفاض وتلك الذريعة الواهية ، علماً بأن للكرد الفيليين دوراً تاريخياً كبيراً في المساهمة مع إخوانهم من الطوائف العراقية الأخرى في بناء العراق الحديث قبل الاحتلال الأخير ، وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافيةوالرياضية والاجتماعية . فكان منهم سياسيون وطنيون ناضلوا في التيارات السياسية بمختلف اتجاهاتها ، و ساهموا في الحركة الوطنية خلال تاريخ الدولة العراقية الوطنية السابقة ، فتحملوا من أجل وطنهم السجون والمعتقلات والتشريد والتسفير . كما انتسب أبناؤهم الى الجيش العراقي و شاركوا في حرب فلسطين عام 1948 ليسقط منهم شهداء امتزجت دماؤهم بدماء إخوانهم العرب والعراقيين على أرض فلسطين بكل اندفاع وايمانوتضحية عظمى . كما ساهموا في حرب حزيران عام 1967 وسقط أيضاً منهم شهداء .
وكان منهم التجار ورجال الأعمال الكبار الذين ساهموا في خدمة الاقتصاد العراقي في مختلف المجالات التجارية والاقتصادية وبالأخص في سوق الشورجة وغيرها . ومنهم المثقفون الذين أثروا الثقافة العراقية العربية بنتاجاتهم وابداعاتهم المعترف بها ، فكان منهم صحفيون وأدباء وشعراء كبار يشار اليهم بالبنان قبل القلم ، من أمثال القاص عبد المجيد لطفي والروائي الكبيرغائب طعمة فرمان والشاعر زاهد محمد . وبرز بينهم رياضيون كبار أثروا الحركة الرياضية العراقية بكل فنون الرياضة أمثال الرباع السابق عبد الواحد عزيز وهو أول عراقي يحصل على ميدالية اولمبية عام 1960 في دورة روما وكانت برونزية والرباع بطل الالعاب الاسيوية عزيز عباس ، واللاعبين الدوليين في كرة القدم أنور مراد وجلال عبد الرحمن ومهدي عبد الصاحب ومحمود أسد وعبد الصمد أسد وغيرهم ، وكذلك في كرة السلة داود سلمان ونعمان مراد وعبد الحسين خليل . و في المجال الفني والموسيقي الموسيقار الكبير سلمان شكر وأخيه محمود والموسيقي العالمي نصير شمه وغيرهما وكل تلك الاسماء المذكورة هي على سبيل المثال لا الحصر فهناك الكثيرون في مختلف المجالات أعلاه من الكرد الفيليين .
أما في المجال السياسي فقد كان لهم ولا يزال دور ريادي ومتقدم في الحركات والاحزاب السياسية العراقية بمختلف اتجاهاتها من اليسارية والقومية والاسلامية والليبرالية و المنظمات المستقلة .
ساهم الكرد الفيلييون كذلك في الحياة الاجتماعية العراقية العامة فبرز بينهم أطباء ومهندسون ومعلمون ومحامون وقضاة ويكفيهم فخراً أن السيدة الفاضلة زكية اسماعيل حقي هي أول امرأة عراقية تتبوأ منصب القضاء . كما تصاهروا مع أخوانهم العراقيين الآخرين من مختلف القوميات والأطياف والمذاهب دون أي تمييز أو شعور بالانعزال أو الابتعاد عن غيرهم من الشرائح ، بل امتازوا بالطيبة والتسامح والوفاء والحرارة والاندفاع في العمل وفي العلاقات الاجتماعية وفي السياسة ، فلم يظهر بينهم يوماً خائن لوطنه أو جاسوس لعدو للعراق ، لذلك بقي حسهم الوطني العالي ناقوساً يقرع دائماً نفوسهم وقلوبهم حباً وولهاً بالعراق وأهل العراق .
مع كل تلك الصفات التي تحلوا بها إلا أنهم لم يسلموا من قهر الأنظمة المختلفة التي حكمت العراق ومنها النظام الديكتاتوري السابق الذي فاق من سبقه في ظلمه وبطشه وعمله للتخلص منهم بشتى الذرائع الواهية والاسباب المختلقة وعلى رأسها التبعية الايرانية ووصمهم بالطابور الخامس . فاستغل كل فرصة سانحة للتخلص منهم منطلقاً من دوافعه العرقية والطائفية والسياسية والاقتصادية . وكان قمة ما قام به ضدهم في بداية الثمانينات من القرن الماضي وخلاله دون توقف هو التهجير الواسع بمئات الألوف الى ايران مستغلاً الحرب الطاحنة المجنونة بينها . وقد خلق هذا التهجير لهم ويلات ونكبات ومعاناة وحجز للألوف من شبابهم الزاهر ليختفوا في المقابر الجماعية دون أثر .
أما في المهاجر فقد عانى الكرد الفيليون الكثير وخاصة في إيران حيث جوبهوا بتمييز آخر قومي فينعتون بالعرب الصداميين ، ومرد ذلك الى مواقفهم في حب العراق ورفض الانخراط في متاهات سياسات النظام الايراني وبالأخص محاولة استغلالهم كمخلب في حربهم م العراق . هذه المعاناة دفعتهم للبحث عن مواطن جديدة تأويهم وأبناءهم لضمان العيش الحر الكريم لهم ولعوائلهم وتأمين مستقبل أبنائهم بعد تهجير النظام العراقي واحجام النظام الايراني في اندماجهم في المجتمع الجديد أو تسهيل حياتهم ورزقهم ومساعدتهم في بناء حياة مستقرة بعيدة عن المعاناة والضيق والظلم . لكنهم مع كل ذلك ظلوا على وفائهم لوطنهم العراق وانتظار العودة التي طالت فأضحت حلماً بعيد المنال . ولذا كانت هجرتهم القسرية الثانية الى بلاد الغربة الجديدة موزعة بين أوروبا وأمريكا واستراليا ليتجمعوا مشتتين في تجمعات صغيرة هنا وهناك في مختلف مدن المهجر ، فيعانوا من جديد ويجاهدوا في بناء حياة جديدة مستقرة ، لكن هيهات وبصرهم ظل يرنو الى وطنهم الأم ولوعة في نفوسهم وأمل بات ضئيلاً .
في هذا الخضم من التهجير والهجرة والمعاناة بدأ الكرد الفيلييون يفكرون في تجميع شتاتهم ولم شملهم في جمعيات تعمل على إيصال صوتهم وعرض قضيتهم على الرأي العام العالمي والعربي والعراقي للدفاع عن حقوقهم المستلبة ، أموالهم وبيوتهم وأولادهم المحجوزين . وكذلك استمروا في هذا الطريق بعد سقوط النظام السابق . بدأوا فعلاً وخاصة في أوروبا بتأسيس الجمعيات المختلفة موزعة على مختلف البلدان ، عملت وتعمل جاهدة رغم العقبات والاختلافات في الاتجاهات والتوجهات ووجهات النظر التي كانت ولا زالت تصل احياناً حد القطيعة والاتهامات المتبادلة علناً وخلف الجدران . لكنها نجحت مع ذلك في إيصال صوت هذه الشريحة وإبراز مشكلتها وما عانته طوال العقود الماضية .
لم تحاول هذه الجماعات والجمعيات الفيلية المختلفة الموزعة على اتجاهات عديدة أن تجمع نفسها في اتحاد واحد وبصوت موحد للعمل على استرجاع حقوق العائلات والافراد والانخراط والعمل ضمن اطار الدولة الجديدة والوصول الى مواقع القرار بمختلف مؤسساتها وتنظيماتها ، مع علمنا بوصول البعض من أفرادها الى مواقع متقدمة من خلال الأحزاب والمنظمات العراقية المختلفة عربية وكردية ، قومية وعلمانية ودينية ومستقلة ، ليثبتوا أقدامهم فيها . إلا أن المطلب الملح والضروري الأشد في هذه الفترة العصيبة هو التوحد والتكاتف والفهم المتبادل والابتعاد عن التشرذم والتباعد والتنافس غير المبرر شخصياً كان أم جمعياً . فهناك فرق بين الاختلاف في الرأي والتوجه وبين التشرذم . فالاختلاف رحمة وإثراء للأمة والمجتمع وإضفاء شرعي متوهج للتنوع النافع ودفع الى التقدم والغنى وإيجاد أفضل السبل في الاختيار بين المختلف للوصول الى التوافق الأفضل ، وهذه هي الديمقراطية التي نفهمها ونعيشها هنا في الغرب الديمقراطي المتقدم . أما التشرذم فهو آفة ومرض يصيب الجماعات بالشلل والضعف وضياع الحقوق وسط خضم من المعارك الجانبية غير الضرورية والتافهة أحياناً توصل الى حد القطيعة والتحارب بالكلام والفعل مما يقف حجر عثرة في طريق العمل البناء ويؤدي بالضرورة الى ضياع الحقوق وطمسها، مما يولد ظلماً مزدوجاً بين ذوي القربى وذوي الاستبداد والبطش في السلطة الحاكمة مهما كان شكلها أو لونها .
إن ما عاناه الكرد الفيليون يقتضي تحديداً منهم ومن نخبهم السياسية والثقافية والاجتماعية وباصرار أن يتوحدوا كتلة خلف المطالبة بحقوقهم الكاملة دون نقصان كعراقيين مثلهم مثل غيرهم من أطياف الشعب العراقي المختلفة. ولا بأس من الاختلاف في المواقع والجهات والتوجهات والافكار والايديولوجيات ، لكن دون الوصول الى مساس البعض بالبعض والتصادم والطعن غير المبرر وغير الضروري ونحن في فترة حرجة خطرة دقيقة من تاريخ العراق الجديد وتاريخ هذه الشريحة المظلومة . ليكن كل في الموقع الذي يريده ويعمل فيه ومن خلاله لخدمة شريحته على أن لا يصل الأمر الى الطعن والتجريح والرفض للآخر أياً كان وأياً كان موقعه واتجاهه . وليكن من دروس الماضي الأليمة والقاسية هدياً للحاضر والمستقبل وطريقاً سليماً لبناء المستقبل الخالي من الظلم والتعسف لكي لا تطمس الحقوق ولا تستلب الحريات ولكي تعم العدالة الجميع دون استثناء وليحصل الكل على حقوقهم كمواطنين عراقيين عليهم واجبات ولهم حقوق متساوية دون النظر الى العرق والدين والطائفة والطبقة . فعلينا جميعاً مهمة بناء العراق الديمقراطي الموحد والحفاظ عليه سليماً معافى قوياً مقتدراً . |