العراق، ديمقراطية أم فوضىاقراطية؟
عبد الستار
نورعلي
إنّ
ما يجري في العراق منذ الاحتلال عام 2003 لا علاقة له بالديمقراطية بمفهومها
السياسي المدني المعاصر في ادارة الحكم وتسيير أمور الدولة والمواطنين وحكم
الشعب نفسه بنفسه. وأول شروطها سيادة الدستور والقانون على الجميع دون
استثناء حيث المواطنة الحقة هي الفيصل في التعامل. اضافة الى توفير الأمن
والأمان وفرص العمل للجميع دون تمييز عرقي أو طائفي أوديني أوتحزبي ضيق،
وتوفير حرية الرأي والعقيدة وتأسيس الأحزاب والتنظيمات المدنية.
فهل ما يجري في العراق منذ أكثر من ست سنوات له علاقة بكل ما ذكرنا وغيره من
شروط وقوانين النظام الديمقراطي؟
فهل هناك احترام وتطبيق للدستور عند القوى والأحزاب الحاكمة وكذا الممثلة في
مجلس النواب العراقي وغيرها من العاملة على الساحة السياسية والتي يفترض منها
أنْ تكون مؤمنة بالدستور وبالعملية السياسية الجارية؟
إنّ الذي نراه ونلمسه في الغالبية العظمى من هذه القوى هو الابتعاد عن احترام
الدستور وتطبيق مواده بدعاوى كثيرة، والمادة 140 حول كركوك خير مثال. كما نجد
عند الكثيرين حتى ممن يُسمون ممثلي الشعب في البرلمان انتقاداً للدستور
والعمل على تغييره مع أنهم منْ وضعوه وشاركوا في صياغته، وقد وصل الأمر
بالبعض أنه يعمل جاهداً وبالمكشوف على نسفه جملة وتفصيلاً من خلال تصريحه
بعدم الاعتراف به، مع أنه من الناشطين السياسيين العاملين تحت قبة البرلمان
والمؤدين لقسم الاحترام والمحافظة على الدستور والقوانين !! بل ذهب هذا البعض
الى القول وبصراحة بأنه دخل العملية السياسية لا من باب الايمان بها بل من
أجل نسفها وارجاع العراق الى المربع الأول بعد الاحتلال. وبكلمة اخرى اعادة
العجلة السياسية الى ماقبل 2003 .
فهل هذه من مبادئ الديمقراطية وتوفير فرص المشاركة الجماهيرية ولمختلف القوى
والأحزاب في إدارة شؤون البلاد والتي من أولويتها الايمان بالتغيير؟
أما بالنسبة إلى الحرية فما نشهده في العراق هو انفلات وفوضى. فما نعرفه عن
الحرية في النظام الديمقراطي هو احترام حرية وحقوق الآخرين والحفاظ على
حيواتهم وأموالهم واعراضهم أولاً وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها بأي شكل
كان، واحترام سيادة القانون والحفاظ على النظام العام .
فهل الحرية المطبقة في النظام العراقي الجديد لها علاقة بمعنى الحرية
بمفهومها المعاصر المدني الحضاري والقانوني؟ أم أنّ ما نشهده تسيبٌ وفلتان
وفوضى عارمة؟
صحف وفضائيات ومنظمات وأحزاب وقوى وجماعات بعدد النخل والحصى والرمال، مختلفة
الاتجاه والرأي والغايات والاجندات الخارجية والداخلية، وبعضها لا هدف لها
إلا نشر الفوضى والتدمير والقتل والموت والارهاب والخوف في صفوف الناس. فكلها
منفلتة لاعاصم لها ولارادع قانوني أو أخلاقي أو شرعي ينظمها ويتحكم في سيرها
وفق الدستور والقوانين والأنظمة السائدة! ولقد ساهمت في كل ما يجري على ساحة
العراق من ارهاب ودمار شامل وقتل مجاني عبثي ضحيته المواطن العادي الفقير
المكافح من أجل لقمة العيش. أما الكبار ففي أبراجهم العالية آمنون مطمئنون
على أنفسهم بعشرات الحراس حولهم، وعلى أموالهم في البنوك الأجنبية، وعلى
عائلاتهم التي تقيم خارج العراق في أمن وسلام ورغيد من العيش المرفّه في
القصور العامرة التي اشتروها باموال العراقيين من البنوك المنهوية والبترول
المُهرّب والفساد والاختلاس والقومسيونات والشركات الوهمية، اضافة الى
الرواتب الضخمة والمخصصات الفخمة .
ليس من الديمقراطية والحرية ترك الحبل على الغارب لتأسيس صحف وفضائيات وقوى
وأحزاب دون ضابط قانوني ينظّمها ويحدّد طرق أدائها ومسؤولياتها تجاه الوطن
والناس، ومحاسبتها حين تخل بالأنظمة والقوانين وتمس أمن البلد وحياة المواطن.
وفي العراق شيء عجبٌ ومثير للدهشة والاستغراب بل والاستنكار. فالحرية مفتوحة
على الآخر دون رقيب أوقانون أو حساب. بحيث أوصلت البلاد الى ما تعيشه من فوضى
واضطراب واختلال في الموازين.
أما الأمن ففي خبر كان!
إن من أولويات الأمن
وجود جهة واحدة مسؤولة تخطّط وتُشرف على التنفيذ والمتابعة وتتحمل مسؤولية
توفير الأمن ونشره، كما تتحمل مسؤولية الفشل والثغرات التي تحصل في هذا
الجانب، اضافة الى اعطاء وسائل الاعلام المعلومات حين الضرورة. لكننا نجد في
العراق أكثر من جهة مسؤولة في هذا الجانب، لذا يعيش البلد هذه الخروقات
الأمنية والعمليات الارهابية البشعة والوحشية، والتي يذهب فيها مئات الضحايا
ولا يتحمل أو يُحمَّل مسؤوليتها أحد. فنسمع تصريحات متضاربة حول المسؤول
عنها.
والأنكى أن معظم التصريحات تُطلق تكهنية وفق الأهواء الشخصية والسياسية
والأجندات الخاصة للقوى والأحزاب والشخصيات السياسية قبل أن تقول الجهات
الأمنية قولها في منْ هو الفاعل الحقيقي، وذلك بعد انتهاء التحقيقات الأصولية
والقانونية. وكل ذلك يجري في فوضى اعلامية تتلاعب بمشاعر الناس، وبعضها يؤجّج
فيها مكامن طائفية أوعرقية أو سياسية في هرج ومرج قلّ نظيره حتى في الصومال
وأفغانستان.
في التفجيرات الدامية الارهابية الأخيرة في بغداد يوم الأربعاء الفائت 19
أغسطس 2009 عند وزارتي الخارجية والمالية بشاحنات مفخخة والتي راح ضحيتها
المئات من الشهداء والجرحى اضافة الى تدمير عارم لمساكن مواطنين آمنين في
الحي السكني في الصالحية، سمعنا تصريحات متضاربة حول الجهة المسؤولة عنها،
سواءاً من وسائل الاعلام العراقية أم من السياسيين واعضاء في مجلس النواب،
وحتى من القادة الأمنيين، وفي فوضى تصريحية أربكت الشارع العراقي والمراقبين.
فمن قائل أنه التحالف الصدامي التكفيري، وآخر القاها على عاتق الصراع السياسي
قبل الانتخابات القادمة بين القوى والأحزاب المتنافسة على الوصول الى السلطة،
وهناك منْ حاول ولا يزال أن ينسبها الى جهة سياسية معينة انطلاقاً من حادثة
سرقة مصرف الرافدين في الزوية والتي ألصقت بتلك الجهة، وهي المجلس الاسلامي
الأعلى. ومن قائل أنّ ايران وراءها،ومن قائل أنها سوريا، ومن قائل أنها جزء
من خطة ما تُسمى بـ(حرق الأعشاش) التي تقف وراءها المخابرات السعودية
بالتعاون والتنسيق بين البعث الصدامي وحارث الضاري والقاعدة وبتمويل سعودي
بالمليارات من الدولارات. وكل هذا أوقع الناس والمراقبين في ارباك وفوضى حيصَ
بيصية!
وقد انبرى أخيراً المتحدث باسم قيادة عمليات بغداد اللواء قاسم عطا ليعرض
علينا اعترافات المشرف الرئيس على هذه التفجيرات،وهو قيادي بعثي سابق وعضو
فرع في ديالى، لنكتشف أن المسؤول عن التخطيط لهذه التفجيرات هو جناح محمد
يونس الأحمد لحزب البعث، وهوجناح مرتبط بسوريا مباشرة حيث يقيم قادته
وتنظيماته هناك يتحركون بالتأكيد بتوجيهات من القيادة السورية، والمخطط
الرئيس هو القيادي البعثي سطام فرحان، وهو ما ذكره المتهم المشار اليه.
وبذا اكتشفنا، والعهدة على قيادة عمليات بغداد، أن المسؤول عن هذه التفجيرات
المروعة ليس من ذكرت وأشارت اليه وسائل الاعلام و السياسيون و بعض القادة في
العراق من خلال التخمين والاسراع في القاء التهمة والشكّ يميناً وشمالاً في
فوضى تصريحية خلخلت الأفكار وأوقعت الناس في حيرة واضطراب. وهذا دليل على أنه
ليست هناك جهة واحدة متحكمة تستطيع أن تمسك بزمام الأمور وتسيطر على الأوضاع
وخاصة في مثل هذه الوقائع الكبيرة والأزمات العظيمة التي تؤثر بعمق في حياة
الناس ومستقبل الوطن.
إنّ من مبادئ حقوق
الانسان في البلدان الديمقراطية الحقيقية معاقبة من يتجاوز على هذه الحقوق
أفراداً كانوا أم جماعات أم تنظيمات. لكن الذي يحدث في العراق هو أن
المتجاوزين على حقوق الانسان العراقي بالقتل والارهاب والتدمير هم الذين
يتمتعون بهذه الحقوق من خلال تكريمهم وعدم المساس بهم ومراعاتهم رعاية لا
يلقاها المواطن العراقي العادي الذي يعاني من كل شيء، فهم يعيشون في نعيم وفي
معتقلات شبيهة بفنادق النجوم الخمسة حيث التبريد والطعام الشهي والرعاية
الصحية والحرص على عدم المساس بأحاسيسهم، وهو ما لايلقاه المواطن العراقي
العادي المعاني والضحية لجرائم هؤلاء. وقد وصل الأمر بالسلطات الى أبعد من
ذلك بتكريم الارهابيين بالعفو واطلاق السراح عشوائياً لارضاء ما تُسمى
بمنظمات حقوق الانسان التي كانت غائبة عما كان يعانيه الشعب العراقي من مظالم
وحروب ومعتقلات وقتل وتشريد ونفي في ظل النظام الساقط. وارضاءاً للقوى
السياسية الداخلة في العملية السياسية والواقفة وراء الكثير مما يجري من
ارهاب وقتل وتدمير رفضاً للتغيير والعملية السياسية، وأغلبهم من الموالين
للنظام السابق، وكذلك في محاولة الظهور بمظهر المطبق لما يُسمى بالمصالحة
الوطنية التي تدعو اليه وتتمسك به بعض القوى السياسية لغرض في نفس يعقوب!
فأين حقوق الضحايا من
شهداء وجرحى ومعاقين؟
وهل سُنَّتْ مبادئ
حقوق الانسان لتكريم الجناة والقتلة والارهابيين؟!
إن هذا من أهم أسباب
انتشار الفوضى والارهاب؟
توفّر الأنظمة الديمقراطية الحقة فرصَ العمل لكل المواطنين دون تمييز، وما
نشهده في العراق (الديمقراطي) شيء مخالف تماماً حيث التعيينات وتوفير فرص
العمل تجري وفق الوساطات والانتماءات الحزبية والفئوية والمذهبية والعرقية
حتى تحولت الوزارات الى كانتونات محتكرة بناءاً على توجهات الوزير وانتمائه
الحزبي والفئوي والمذهبي. أو تجري بالرشوة، فكم من عسكري وشرطي ورجل أمن
عُيّن بالرشوة بالدولار! وهذه المهن كما هو معروف خطيرة لأنها تمس حياة وأمن
الناس. ولذا نرى الخروقات في الجانب الأمني والتي أدت الى كل ما يجري من
أعمال ارهابية وتخريبية وآخرها فاجعة الأربعاء الماضي. والتي اعترف الارهابي
المشرف على تنفيذها بدفع رشوة مقدارها عشرة آلاف دولار تدفع لرجال السيطرات
الأمنية التي مرت بها الشاحنات القادمة من المقدادية في ديالي الى بغداد.
فهل بعد هذه الفوضى فوضى؟!
وهل ما يعيشه العراق
اليوم ديمقراطية أم فوضاقراطية؟
عبد الستار نورعلي
الأثنين 24 أغسطس 2009
Back
|