القهقرى

 بقلم: عبد الستار نورعلي


أبعدَ سبعةٍ وستينَ تعودُ القهقرى
إلى الذي يسكنُ خلفَ الأمل الطائشِ
في الينبوعْ
حتى تناجي ما روى
مسيرُك الحافلُ بانطفاءِ قامةِ السطوعْ:

كيف اختصرْتَ قبةَ السماءِ أطعمْتَها
مِنْ خطواتٍ زُوِّقَتْ
صياغةَ الرمادِ في الرغبةِ والضلوعْ ؟!

أتعودُ هذا اليومَ تبغي القهقرى
إلى الذي خلف كواليس النصوصْ
تلتفُّ حولَ سرِّها المُغلقِ بالقُفلِ
بأبوابِ المسافاتِ التي تصطفُّ
بين الشارعِ الطويلِ
والتهامِ نارِ القدمينِ
بالرجوعِ القهقرى ؟!

أبعدَ هذي السنينْ
تأملُ أن تعودَ من هذا المصبِّ
والنهايةِ المرتقبهْ
إلى ربوعِ المنبعِ المهاجرِ الدائمِ
في اقتسامِ أصنافِ الأنينْ؟!

ظلُّكَ
لا يزالُ يمشي
خلفَ ديكورِ المسارحِ
قصةِ التمثيلِ بالوجهِ وباللسانِ،
بالأصابعِ الطينِ،
وباختراقِ بابِ الشيخ
ساحةِ الخلاني
والصدريةِ
مدينةِ الحريةِ
الكاظميةِ
وشارعِ الرشيدِ
والميدانِ
سوق الهرجِ الذي استحالَ *
هرجاً
ومرجاً
يستقبلُ السائحِ
والغزاةَ
والباحثَ عن أمتعةٍ
ومتعةٍ للقهقرى ...

داخلَ ذاك البارِ عندَ موقف الباصاتِ في الميدانِ،
النادلُ كم يناولُ الكأسَ وبابتسامةٍ مُزوَّرهْ
يحكي عن الدولارِ في مقابل الدينارِ ،
تنتظرُ اللحظةَ في امتطاءِ باصٍ
فتناغي الغرفةَ الصغيرةَ المحشورةَ الوجهِ
في خانةِ الكتابْ
تنامْ
على سريرٍ عامرِ الأحلامْ!

ما بينَ أقداحٍ من البيرةِ (الفريدةِ) الباردةِ
بثلجِ تلكَ القهقرى
تشتعلُ العينانِ واللسانُ والحَلقُ وذاكَ الصدرُ
مثلَ بركانٍ بميدانِ أمونيا،
وأثينا
تلكمُ المدينةُ التاريخُ تحكيكَ:
فهل تذكرُ أيامَك والسنينَ إذْ وقفْتَ فوقَ النصِّ
في الساحةِ في منتصفِ الليلِ
وحدَّقْتَ:
مساحيقٌ وجوهُ الناسِ والمدينةُ الفضلى،
اللواطيون أسرابٌ،
سرابٌ.
والبغايا يترنحْنَ من السُكرِ ،
من الطريقِ نحو الموتِ في الظلِّ
وفي البارِ الذي يضيقُ
بالرجوعِ القهقرى؟!

وقفْتَ ....
وسطَ الأعمدةِ الرخامِ في الأولمبِ،
حدّقتَ ...
إلى البعيدْ:
هذي أثينا الأخرى
تحتَ عينيكَ عروساً من حرارةِ الشمس ،
ومن نضارةِ العقلِ،
ودفءِ الروحِ،
واهتياجِ ذاك البحرِ ، تلك الحِمم البركانِ!
صخرةُ المعبدِ ، هوميروسُ، أرسطو، افلاطونُ، سقراطُ
على مدى البصرِ ...

هناكَ ....
حيثُ التي أفرخَتْ عن رقاعِ اللغةِ يوماً
أطلقتْ رمحَها إلى شارعِ السعدونْ
حيثُ البارُ المطلٌّ على ساحةِ النصرِ ينتظرُ الوافدينْ
شربْـتَ خمرَ السنينْ
خاطبْتَ سومرَ فاستفاقتْ رُقُـمُ اللسانِ والطينْ،
فأطلقتْ سهامَها ما بينَ دجلةَ والفراتِ
أشرعَتْ أبوابها
تقتنصُ الشمسَ عراقاً مُثقلَ الأكتافِ والحنينْ.

وقفَ النادلُ ذاكَ الضخمُ معروقَ الجبينْ
رَقماً يزحفُ في عِرقِ السنينْ:
ناولْني كؤوسَ العرقِ النازفِ في قعرِ الفؤادْ
حتى الثُمالهْ
واحتملْني
زمناً من خمرةِ الجفافِ والظلِّ
من النسيانِ
من سرابِ تلكَ الواحةِ السرابْ!!

أثينا!
درّةَ الملاحمِ الكبرى ونورَ الروحِ والمصباحْ!
هذا ابنُكِ في الشوارعِ الخلفيةِ
يبحثُ عن مأوىً، فيهوي في ظلالِ الطرقاتْ!
إنَّ هذا ابنُ علاء الدينِ والمصباحْ
والليلةِ بعدَ الألفِ
والرقصِ على حبالِ قرعِ الموتِ والجرحِ مع اللفِّ ...
تواريخُ الشواهدِ غارقةٌ وفي الصمتِ
ولا تحكي
ولا تبكي
على مائدةِ اللعبةِ والشدِّ ،
على الفتكِ .

أتعودُ القهقرى
ما بعدَ أيامٍ ، ليالٍ ، وسنينْ
رحلةِ القفرِ
وشدِّ الخصرِ
نزفِ الرئةِ القهرِ؟!

بلغرادُ،
قطارُ الصبحِ،
أثينا،
ثمَّ صوفيا في الطريقْ.

ذاكَ جيفكوفُ وصرحٌ يندحرْ!
هو سيلُ العرباتِ الزاحفهْ
من وراءِ السوقِ في عالمنا الغربيِّ،
والشوارعُ الخلفيةِ المزدحمهْ
تحملُ
أطفالَ الأنابيبِ وذاك الأخطبوطَ الأسودَ القسماتِ
واللعناتِ
والحِبرِ المُعلّبْ.

صوفيا!
اينَ أنتِ اليومَ ؟
في قافلةِ العودةِ صوبَ القهقرى؟!

هذهِ بغدادُ عادتْ قهقرى!

طوائفُ النملِ وأذنابُ العقاربْ
خرجتْ
منْ رحمِ الظلِّ ونامتْ في الجلودْ
واقتسامِ المغنمهْ.

أبعدَ مرِّ السنينْ
في السنينْ
وقرعِ كأس الأنينْ
تقفُ اليومَ وفي الشرفةِ
الغائمةِ النائمةِ .....
المطرُ الهاطلُ كالسيلِ يدقُّ الوجهَ
والشُباكَ والشارعَ،
يحكي ظلَّكَ الوارفَ بالظلِّ،
وبالعودةِ طيَّ القهقرى؟!
 


الهوامش

* بابِ الشيخ، ساحةِ الخلاني، الصدريةِ، مدينةِ الحريةِ، الكاظميةِ، شارعِ الرشيدِ، الميدانِ: اسماء مناطق في مدينة بغداد

* سوق الهرج: اشهر سوق شعبية في وسط بغداد حيث تباع الأشياء القديمة والمستعملة والمستهلكة من الإبرة حتى الموبيليات وكذا الأشياء النادرة.

* الاشارات التي وردت عن اثينا وبلغراد وصوفيا هي من تجاربي التي عشتها في هذه المدن حين اعتدت زيارتها في السبعينات من القرن العشرين. والاشارة الخاصة بصوفيا مقارنة بين ما رأيتها عليه حين زرتها مرات في السبعينات وبين ما شاهدته فيها من تغيير بعد انهيار المعسكر الاشتراكي حين القيت فيها مع عائلتي رحال الهجرة آخر أيام عام 1991 وأمضيت فيها أشهراً طويلةً قبل الوصول الى السويد وشاهدت ما حصل فيها بعد التغيير من فوضى ومن معاناة الناس وانتشار الفقر والغلاء والمخدرات والجريمة والسوق السوداء وفقدان المواد الغذائية والفساد وتخريب وسرقة ممتلكات وأموال الدولة وسيادة المافيات في الشارع وفي السياسة.

* ثيودور جيفكوف: هو زعيم الحزب الشيوعي البلغاري ورئيس الدولة عند السقوط، وقد سُجن لمدة ستة أشهر وأطلق سراحه ليعيش عيشة متواضعة عند حفيدته مصممة الأزياء (يفغينيا جيفكوفا) حتى وفاته إذ لم يكن لديه بيت خاص به.

فجر الأحد 12 تموز 2009