الدوائر المتداخلة
عبد الستار نورعلي
على حافاتِ الدوائر المتداخلة يحتسي كأسَ النهاياتِ، يتدلّى مصدوعاً من حبالِ الهواءِ الممتزج برائحة البخور،
أنفاسُ الزاوية تُطبقُ أنيابَها،
الشموعُ البيض النابضة بالنور الشاحب قربَ الكيبورد تتراقصُ في عينيه، مثل شعاع بعيدِ وسط طريق موحلٍ بين مستنقعاتِ الرغبة،
يلمحُ من خلال النافذة عبر الشارع الطويل قطةً تقفز داخل الأيكة على الرصيف المقابل هاربةً من عجلات السياراتِ والدراجاتِ المارقةِ مثلَ البرق، بهديرٍ يتصدّعُ منه الأسفلت،
صراخٌ، هديرُ العجلات في ثنايا الكيبورد، رؤوسُ الكلماتِ تدوخُ بين أنامله،
كم رأسٍ تتدحرجُ داخلَ اللعبة؟
القطةُ الجميلةُ في الشقة الأعلى تقفُ على حافة الشرفةِ كلما خرج من العمارةِ، تُحدّقُ في وجههِ بإمعانٍ ، تُخرج عينيها من محجريهما، تلقيهما في سواد عينيه بتضرع، هي وحيدة مثلهُ، ربما شعرتْ بطقطقات الكيبورد المتقطعة كلّما استيقظتْ في الفجر،
ماذا يجولُ في رأسِها؟
الضجيجُ بركانٌ لا ينتهي .....
أذرعٌ تندفعُ من خلال الكيبورد، دوائر متداخلةٌ تجرُّ في دورانها ذاكرتَـهُ، لتسيلَ في الوادي المُقدّسِ نهراً..... من دخان،
القهوةُ ممزوجة بالحليب، أبيض يختلط بالأسود، لم يكنْ يحبّ القهوةَ من قبلُ، ومنْ بعدُ أمسى زبوناً دائماً في مهرجان أكواب السواد،
سوادٌ في كلِّ نواحي المدينة، الحارات، المحلات، البيوت، الغرف، الملابس، الأسرَّة، الوجوه، العيون، الأفواه، الأقدام، الصحف اليومية، المائدة المستديرة الشارع الطويل، حتى الأرغفة في التنور الصدئ،
السدرةُ وسطَ الدار دائرةٌ تدور كالمرجلِ في القلبِ من ايام طفولة الأناملِ والأوراق والأقلامِ والليل الوفيّ وسبعين عاماً،
يسألني عابرُ سبيل: منْ أين أتيتَ؟ وإلى أينَ المسير؟
انقطعَ لساني في منتصف الطريق،
عيناكَ غابتان من النخيل أم كوبان من القهوة المرّة؟
توقّف الكيبورد عن النطق، بينما القلمُ لم يتوقفْ عن تخطيطاتِ دوائر الروح ووجهِ أمهِ وكرةِ الكونِ المتأرجحةِ بينَ قرني الثورِ في الأيام الخوالي،
السرُّ كلُّ السرِّ في الدوائر المتداخلةِ على الكرة الأرضية،
إجابة سريعة رجاءاً: يقول الكيبورد،
الزمنُ يمضي والكراسي ثابتة في مكانها بمسامير التاريخ المتحجّرِ، والمتقلّبِ بينَ الفصولِ وحِمل الأكتاف،
اللسان آلةٌ من المطاط، العينانِ قطعتانِ من الأثاث الرثِّ، الرأسُ هي الذاكرةُ الضعيفةُ للكومبيوتر القديم المرميّ تحت الكنبة المكسورة لتستندَ عليه، الأصابعُ جليدٌ، والرأسُ غابةٌ شاسعةُ الأنحاءِ، موحشةُ الأرجاءِ، مظلمةُ الأجواء،
لم يقلْ لهُ اللابتوب القابعُ بين أناملهِ ماذا عليهِ أن يفعلَ الآن في هذا الفجرِ وليالي الحشرِ في هذا العمرِ ،
توقّفْ!! انتهى الشحن !
عبد الستار نورعلي فجر الأثنين 17 أغسطس 2009
بقلم: عبد الستار نورعلي
أبعدَ سبعةٍ وستينَ تعودُ القهقرى إلى الذي يسكنُ خلفَ الأمل الطائشِ في الينبوعْ حتى تناجي ما روى مسيرُك الحافلُ بانطفاءِ قامةِ السطوعْ: كيف اختصرْتَ قبةَ السماءِ أطعمْتَها مِنْ خطواتٍ زُوِّقَتْ صياغةَ الرمادِ في الرغبةِ والضلوعْ ؟! أتعودُ هذا اليومَ تبغي القهقرى إلى الذي خلف كواليس النصوصْ تلتفُّ حولَ سرِّها المُغلقِ بالقُفلِ بأبوابِ المسافاتِ التي تصطفُّ بين الشارعِ الطويلِ والتهامِ نارِ القدمينِ بالرجوعِ القهقرى ؟! أبعدَ هذي السنينْ تأملُ أن تعودَ من هذا المصبِّ والنهايةِ المرتقبهْ إلى ربوعِ المنبعِ المهاجرِ الدائمِ في اقتسامِ أصنافِ الأنينْ؟! ظلُّكَ لا يزالُ يمشي خلفَ ديكورِ المسارحِ قصةِ التمثيلِ بالوجهِ وباللسانِ، بالأصابعِ الطينِ، وباختراقِ بابِ الشيخ ساحةِ الخلاني والصدريةِ مدينةِ الحريةِ الكاظميةِ وشارعِ الرشيدِ والميدانِ سوق الهرجِ الذي استحالَ * هرجاً ومرجاً يستقبلُ السائحِ والغزاةَ والباحثَ عن أمتعةٍ ومتعةٍ للقهقرى ... داخلَ ذاك البارِ عندَ موقف الباصاتِ في الميدانِ، النادلُ كم يناولُ الكأسَ وبابتسامةٍ مُزوَّرهْ يحكي عن الدولارِ في مقابل الدينارِ ، تنتظرُ اللحظةَ في امتطاءِ باصٍ فتناغي الغرفةَ الصغيرةَ المحشورةَ الوجهِ في خانةِ الكتابْ تنامْ على سريرٍ عامرِ الأحلامْ! ما بينَ أقداحٍ من البيرةِ (الفريدةِ) الباردةِ بثلجِ تلكَ القهقرى تشتعلُ العينانِ واللسانُ والحَلقُ وذاكَ الصدرُ مثلَ بركانٍ بميدانِ أمونيا، وأثينا تلكمُ المدينةُ التاريخُ تحكيكَ: فهل تذكرُ أيامَك والسنينَ إذْ وقفْتَ فوقَ النصِّ في الساحةِ في منتصفِ الليلِ وحدَّقْتَ: مساحيقٌ وجوهُ الناسِ والمدينةُ الفضلى، اللواطيون أسرابٌ، سرابٌ. والبغايا يترنحْنَ من السُكرِ ، من الطريقِ نحو الموتِ في الظلِّ وفي البارِ الذي يضيقُ بالرجوعِ القهقرى؟! وقفْتَ .... وسطَ الأعمدةِ الرخامِ في الأولمبِ، حدّقتَ ... إلى البعيدْ: هذي أثينا الأخرى تحتَ عينيكَ عروساً من حرارةِ الشمس ، ومن نضارةِ العقلِ، ودفءِ الروحِ، واهتياجِ ذاك البحرِ ، تلك الحِمم البركانِ! صخرةُ المعبدِ ، هوميروسُ، أرسطو، افلاطونُ، سقراطُ على مدى البصرِ ... هناكَ .... حيثُ التي أفرخَتْ عن رقاعِ اللغةِ يوماً أطلقتْ رمحَها إلى شارعِ السعدونْ حيثُ البارُ المطلٌّ على ساحةِ النصرِ ينتظرُ الوافدينْ شربْـتَ خمرَ السنينْ خاطبْتَ سومرَ فاستفاقتْ رُقُـمُ اللسانِ والطينْ، فأطلقتْ سهامَها ما بينَ دجلةَ والفراتِ أشرعَتْ أبوابها تقتنصُ الشمسَ عراقاً مُثقلَ الأكتافِ والحنينْ. وقفَ النادلُ ذاكَ الضخمُ معروقَ الجبينْ رَقماً يزحفُ في عِرقِ السنينْ: ناولْني كؤوسَ العرقِ النازفِ في قعرِ الفؤادْ حتى الثُمالهْ واحتملْني زمناً من خمرةِ الجفافِ والظلِّ من النسيانِ من سرابِ تلكَ الواحةِ السرابْ!! أثينا! درّةَ الملاحمِ الكبرى ونورَ الروحِ والمصباحْ! هذا ابنُكِ في الشوارعِ الخلفيةِ يبحثُ عن مأوىً، فيهوي في ظلالِ الطرقاتْ! إنَّ هذا ابنُ علاء الدينِ والمصباحْ والليلةِ بعدَ الألفِ والرقصِ على حبالِ قرعِ الموتِ والجرحِ مع اللفِّ ... تواريخُ الشواهدِ غارقةٌ وفي الصمتِ ولا تحكي ولا تبكي على مائدةِ اللعبةِ والشدِّ ، على الفتكِ . أتعودُ القهقرى ما بعدَ أيامٍ ، ليالٍ ، وسنينْ رحلةِ القفرِ وشدِّ الخصرِ نزفِ الرئةِ القهرِ؟! بلغرادُ، قطارُ الصبحِ، أثينا، ثمَّ صوفيا في الطريقْ. ذاكَ جيفكوفُ وصرحٌ يندحرْ! هو سيلُ العرباتِ الزاحفهْ من وراءِ السوقِ في عالمنا الغربيِّ، والشوارعُ الخلفيةِ المزدحمهْ تحملُ أطفالَ الأنابيبِ وذاك الأخطبوطَ الأسودَ القسماتِ واللعناتِ والحِبرِ المُعلّبْ. صوفيا! اينَ أنتِ اليومَ ؟ في قافلةِ العودةِ صوبَ القهقرى؟! هذهِ بغدادُ عادتْ قهقرى! طوائفُ النملِ وأذنابُ العقاربْ خرجتْ منْ رحمِ الظلِّ ونامتْ في الجلودْ واقتسامِ المغنمهْ. أبعدَ مرِّ السنينْ في السنينْ وقرعِ كأس الأنينْ تقفُ اليومَ وفي الشرفةِ الغائمةِ النائمةِ ..... المطرُ الهاطلُ كالسيلِ يدقُّ الوجهَ والشُباكَ والشارعَ، يحكي ظلَّكَ الوارفَ بالظلِّ، وبالعودةِ طيَّ القهقرى؟!
|