مقامة المتهجِّد* عبد الستار نورعلي
في الأيام الأخيرة عصفتْ بي عصفاً وقصفتْ بي قصفاً تجربةٌ قاسيةٌ مُرّةُ المذاقِ ، شديدةُ الوثاقِ ، ضيقةُ الخِناقِ، داجيةُ الرواقِ، حادّةُ النصال، مجهولةُ المآلِ. أوقعتني بينَ براثن اكتئابٍ شديدٍ بألمٍ عنيدٍ. ألقى في خاطري ظلالَ شكٍّ بأنّي لن أنهضَ منه سالماً، ولن أخرجَ منْ كهفه غانماً. اكتئابٍ اختلس مني عنوةً نعمةَ النومِ، وشهوةَ الأكل والشربِ والعومِ، في محيط الطبيعة والأهلِ والأصحابِ والقومِ ، إذ أحالَ ليلي نهاراً ونهاري ليلاً من الشومِ.
انتبهتْ كعادتها شريكةُ الحياةِ، ورفيقةُ أصعبِ الأوقاتِ ، التي تعيش معي في التباتِ والنباتِ، أمُّ عليٍّ، فاستفهمتْ بعدَ أنْ تحمّلتْ معي الأيامَ القاتماتِ، والأحاسيسَ الهائجاتِ المائجاتِ، والكوابيسَ الخانقاتِ: أنتَ لستَ مثلَ يوميةِ العاداتِ ، في الحركاتِ الذاهباتِ الرادّاتِ ، والنشاطاتِ العديداتِ الزائداتِ ، خارجاً داخلاً ، جالساً واقفاً ، مثلَ لولبٍ دوّارٍ ،وبندولٍ سيّارٍ !
حتى الأكبادُ، جوان ونور وعلي، انتبهوا كذلكَ، وتساءلوا في ذلكَ ، ولم يتعبوا منْ إلحاحِ السؤالِ عنِ أسبابِ الحالِ ، والتحلّي بالآمالِ بخير المآلِ.
خشيتُ أنْ أكونَ على حافة انهيارٍ ، وعلى شفيرِ انفجارٍ ، وقابَ قوسين أو أدنى منْ اندحارٍ ، وعلى طريقِ انحسارٍ!
أنا احتساءُ كأسِ الصلابة والقوة والصمودِ ، واستطعامُ رغيفِ القناعةِ بالموجودِ ، والمتعلّقُ بأهدابِ الصبرِ والعنفوانِ، وابنُ نفسٍ كالبركانِ، تحتويني مشاعرُ كالطوفانِ، ولكنْ في صدري قلبٌ كالبستانِ، فيه ألوانٌ من طيباتِ الثمارِ ، والأنسامُ العليلةُ وعطرُ الأزهار . صلدٌ أمام الملماتِ والمصاعب الكبيرهْ ، والعوائق والنوائب المُغيرهْ، التي ألقت بنا في أتونِ كلِّّ عاتيةٍ وماطرةٍ مريرهْ، كغيري من أبناء جيلي والأجيال المتعاقبةِ النضيرهْ، في بلادنا التي أبتليتْ وماتزالُ بالأحداثِ الجسامِ والكوارثِ الغزيرهْ !
وفي ليلةٍ كنتُ غائصاً في مقعدي، محترقاً بلهيبِ موقدي، أمام شاشةِ المِشوافِ بإشعاعهِ الزارعِ عِللاً في النفس والجسدِ، أواصلُ جمالَ المشهدِ، في المسلسل التركيَّ (دقات قلب) الذي أتابعهُ بشغفٍ ، وأشاهدهُ بلَهَفٍ ، بحيث لا تفوتني منه حلقةٌ، ولا تغافلُني فيها لحظةٌ ، رغمَ كلّ ما قيلَ ويُقالُ عن المسلسلات التركيّهْ ، التي غزتنا غزوةً عثمانيّهْ ، وفي هذه المرةِ بأهدافٍ علمانيّّهْ ، وثقافةٍ اجتماعيةٍ غربيّهْ، ويرى البعضُ أنه تقفُ وراءها دوائرُ مشبوهةٌ سريّهْ ، توجّهُ سهامَها الى صدور المجتمعاتِ الاسلاميّهْ ، والعاداتِ والتقاليد العربيّهْ، وذلك لتزويق وتسويقِ نوازعِ الرذيلةِ ، وطمسِ فضائلِ الفضيلةِ ، ومسخ جمالِ الهويهْ، ونسيانِ قضايا الأمةِ المصيريهْ. والأدهى بلغةٍ عربيّهْ، وبلهجةٍ محببةٍ شاميّهْ، وبأجواء جميلةٍ مبهرجةٍ فخمةِ زاهيهْ، وبقصص مثيرةٍ جذابةٍ مغريهْ.
فلا عتبَ ولا لومَ ولا قدحَ بالأمزجةِ الشعبيهْ، والأذواقِ الجماهيريهْ ، لأنّ الطبقاتِ المسحوقةَ المهضومةَ الحقوق الشقيّهْ ، والمحرومةَ المحكومةَ بالأنظمةِ الطاغية غير الشعبيّهْ، والمخنوقة بالأجهزةِ البوليسيةِ القمعيّهْ ، تبحثُ عما يخفّفُ عنها الضغوطَ النفسيّهْ ، ويُنسيها أوضاعها المعيشيهْ، ويلقيها في عوالم الأحلام الورديّهْ، ويثير عندها الانبهار والدهشة البصريّهْ، لتغفلَ عن حياتها البائسةِ الرديّهْ، وتؤمنَ أنّ القناعةَ كنزٌ لا تفنى جواهرُها السرابيّهْ.
ومع كلِّ هذا الذي ذكرتُ ، والكلامِ الذي سطّرتُ ، فإني أتابعُ الحكايةَ، وأشاهدُ الروايةَ، إذ أنّي أحبُّ الإثارةَ، وأهوى فُضولاً أن أصلَ النهايةَ، إذا تابعْتُ البدايةَ. فهي تحكي قصةَ فنانٍ مبدعٍ مفرطِ الحساسيهْ ، ومضطربٍ النفسيهْ، في لحظاتِ الخلقِ الابداعيهْ، فقد هبّتْ على حياته عواصف من التجارب المُرّة القاسيهْ، التي عصفتْ بحياتهِ عصفا، وقصفتْ بروحهِ قصفا، فاهتاجت مشاعرهُ، وضجّتْ بلابلهُ، فتأجّجتْ انفعالاتهُ ، وماجتْ أحاسيسهُ المرهفة الشفافة مثلهُ مثلُ غيره من المبدعين المرهفين ، لتضغط عليه نفسيّاً، وتنشب مخالبها في روحه حسيّاً، وبأداء تمثيلي بارعٍ ، من ممثلٍ ساطعٍ ، يتقن دورهُ ، ويسبرُ في القلبِ غورهُ ، بعمق وتفوق وامتياز طافحٍ ، وتأثير واضحٍ ، وكشفٍ فاضحٍ ، لدواخلِ موسيقيٍّ يعاني منْ نصلٍ جارحٍ ، هو الممثل التركي (براق حقي) الذي كانَ أكثر من ناجحٍ.
في ليلة وهو يعاني من حالة اكتئاب حادّْ، يغرزُ سكينَ الألم في روحهِ بازديادْ، وكان كلُّ الذين حوله يظنون أنّه في حالةِ انهيار نفسيٍّ باضطرادْ ، وموهبةٍ متضاءلةٍ تتلاشى فلا تُعادْ . وقفَ وهو في هذه الحالة صُـلباً ، وهبَّ في وجهِ الرياحِ هبّاً ، لينهيَ أشجى لحنٍ ، بأروعِ فنٍّ ، وبأبدعِ لونٍ، وأرهفِ حسٍّ ، مهتدياً بصدى كمٍّ كبيرٍ من نصالِ الألم والمعاناة والمتاعبِ الشِدادْ، والأخذ والردِّ والجذب والانشدادْ.
وقفَ في حديقةِ دارهِ ليلاً ، فاندفعتْ مشاعرُهُ سيلاً ، ورفعَ رأسَهُ وعينيه عالياً بشموخٍ واعتزازٍ وكبرياءْ، وبأداءٍ فنيٍّ متينٍ عالي البناءْ، مشرقِ السناءْ ، مشبع الرواءْ، مطفئ لهيبِ الظِماءْ، ظهر على ملامح وعيني الممثل براق حقي المبدع المتلبس حالةَ الشخصيةِ، بشكل رائعِ اللفتةِ ، متقَنِ الصنعةِ ، بهيّ الطلعةِ ، شجيّ النغمةِ ، مدهش الأداءْ ، مثيرٍ للنساءْ ، قائلاً: أنا حسين كنان!!
حينها أحسسْتُ احساساً هزّني ، وسمعْتُ صوتاً فزّني ، أعادَ اليَّ صوابي ، وفتحَ المُغلَقَ منْ أبوابي ، والى نفسي ردّني ، والى سابقِ عهدي شدّني ، وكأنّني أنا الذي نطقْتُ صادحاً ، وقلتُ صائحاً، وسُررْتُ منتصِراً فالحاً.
فانتفضتُ من مقعدي واقفاً ، ونسيمٌ من الراحة يهبّ عليّ رائقاً.
فبدأ العدُّ التنازليّ لحالة الاكتئابْ ، وانحسار موجةِ الاحساس بالانهيار والاضطرابْ، فتوجّهْتُ الى الله سبحانه وتعالى ، وإلى واسع رحمتهِ أبغي المنالا. ففتحتُ نورَ الأبوابْ ، أمامَ جلالهِ فهو المانعُ والوهّابْ ، ومسببُ الأسبابْ ، مرسلُ الكتابْ، رحمةً لأولي الألبابْ . فأوقدتْ الشموعْ ، وشرعْتُ في صيامٍ لأسبوعْ ، فأكثرتُ منْ قراءة القرآن الكريمْ ، ضارعاً إلى الله الرحمنِ الرحيمْ ، أنْ يُشرعَ أبوابَ الرحمهْ ، وينشرَ طيبَ النعمهْ ، ويمنحني مفتاحَ الهمّهْ ، لتزولَ عن نفسي هذه الغمّهْ!
شعرتُ براحةٍ تغمر روحي، واطمئانٍ يشفي جروحي، فأجتاحني انشراحٌ في صدري، ونورٌ يضيء كلَّ جوارحي ويُعيدُ صبري.
ها هو الهَـمُّ في طريقهِ الى الفرارْ، مولّـياً الأدبارْ، متسربلاً بالهزيمةِ والاندحارْ.
فكانتْ هذه الشذراتُ البسيطةُ المتناثرهْ، من التعبير عن المشاعرِ المتوقدةِ المتطايرهْ، والتي لا ندّعي فيها بلوغَ شأو الأسماءِ الرنانةِ الكبارْ، ولا تمامَ بلاغةِ الأشعارْ. راعينا فيها تزويقَ الوزن والقافيةِ إذ هما المكياجْ، وتركنا مفتاح القصيدة الجميلة بخيالها لأصحابِ الأبراجْ، المبنيةِ بالعاجْ، والمتوجةِ رؤوسُ قصائدِهم بمديح عبيدِ التاجْ ، فهي ثمراتُ ارهاصاتِ ولادةِ اللحظةِ، بسرعةِ انطلاق اللمحةِ، وانطفاءِ الجمرةِ، لنيرانِ الخيبةِ، وتلاشي مرارةِ طعمِ الهجمةِ، وسريان البرودةِ بطراوةِ النسمةِ، وتسرُّبِ الرطوبةِ في الصدرِ بغزوةِ شيطانِ الشعرِ.
ويبقى المتلقي الحكمَ الفصلْ، وصاحبَ القولِ العدلْ:
إنّكَ الأعلى وفي السفحِ أنا ومنَ الروحِ قريبٌ ، مُنجِدُ
فتقبّلْ صوتَ مسكينٍ دعا وحدَكَ اللهمَّ أنتَ المَقصَدُ
* * * *
أحتسي الآياتِ روحاً، مُشْعلاً شمعةَ الغفرانِ ، فهي الأنورُ
أيُّها الغافي على رَجْعِ الصدى لا صدىً يعلو وصـوتٌ يعبـرُ
غيرَ صوتِ الربِّ في عليائهِ إنهُ الرحمنُ ، وهو الأكـبرُ
* * * *
سكبْتُ نبيذَهُ ورفعْتُ جامي بنخـبٍ ظلَّ مرخيَّ اللجامِ
ايا سُمّارُ هيّا كي نساقي حبيبَ الروحِ قدسيَّ المقامِ
* * * *
هلْ البراءةُ عيـبٌ لسْـتُ أدريـهِ؟ هلْ إنّـهُ الحُمْقُ مَعْجُوناً براعيهِ؟
* * * *
سألْتُ القلبَ يوماً ما دهاكا؟ أجابَ: فلا تكنْ غَفِلاً مَلاكا!
* * * *
وقالوا: الطيبةُ العمياءُ حُمْـقٌ سلاحُ الغافلِ العَجـِز الجبانِ
أقولُ هي الشجاعةُ أنْ تصبُّوا عصـيرَ الحبِّ في كلِّ الأواني
* * * *
هذا أنا صلابـةُ الصخرِ لا أنحني للعاصفِ المُـرِّ لا أنزوي عنْ جادةِ الصبرِ أو يعلقُ التشويشُ بالفِكرِ هذا أنا الثابتُ لا أجـري خلفَ الهزيلِ الطافحِ الغدرِ أو الكلامِ الأصـفرِ النَبْـرِ إنّي الذي أُنيـرُ كالبـدرِ أصوغُ منْ قلائدِ الشعرِ لآلئـاً ، تبـرقُ بالخيـرِ وأُغرِقُ الحقولَ بالزَهْرِ لتمـلأَ الآفـاقَ بالعطـرِ إنّي الذي أُصبحُ أو أسري أبني العُـلا بقوةِ الظَهـْرِ أشمُخُ كالآسادِ كالنّسرِ في السهلِ والقمةِ والوَعْرِ وكلُّ ما في باطنِ الصدرِ أنصعُ منْ زيدٍ ومنْ عمروِ أكلي وشربي رائعُ الشعرِ وأجملُ الألحانِ والنثـرِ وسامري مَسَـلّةُ البِشرِ تخـطُّ للإنسـانِ بالبـِرِّ أحلى وأنقى ماحوى شِعري
عبد الستار نورعلي السويد الجمعة 2 أكتوبر 2009
* ألبس الصديق الشاعر الكبير يحيى السماوي نصي هذا شرفَ بُردةِ الأسم (مقامة المتهجِّد) لتبرق بألوان كريستالاتِ روحهِ الشعريةِ ، ومشاعرهِ الانسانيةِ، وليشعَّ النصُّ بلألاء جواهر التسميةِ . فشرّفني بذلك أن أختار هذا الاسم عنواناً لنصي بعد أن كنتُ قد سميته قبلاً (غفرانك اللهم ـ شذرات) ونشرته في موقع مركز النور بتاريخٍ سابقٍ موجزاً استهلاله النثريْ، كي لايقع القارئ الكريمُ في المللِ من الاطنابِ ، والضجرِ من الإسهابِ، الذي يوقع في نفسهِ أنه قسريْ ، مع أنه من متطلباتِ كشفِ النقابِ عن الخيطِ السريْ خلفَ الحجابِ، والذي يربطُ بين محفزاتِ ووخزاتِ الارهاصاتِ في تجلياتِ النفسِ وبينَ القولِ الشعريْ، الذي وردَ في خاتمةِ المقامةِ ونهايةِ تمامِ المقالةِ.
* المقطع النثري الأخير (والتي لا ندّعي فيها بلوغَ .....الى ... وصاحب القول العدل) هو اضافة على النص بتاريخ 15 فبراير 2010. والنص كُتب بكامل ردائه المنشور أعلاه بالتاريخ المؤرّخ في نهايته (الجمعة 2 أكتوبر 2009) . وهذا المقطع المضافُ هو في الحقِّ ردٌّ على أحد المعلقين الذي أسمى نفسه (رباح حسن ؟!) على قصيدتي (هذا العراق وهذه ضرباته) التي نشرتها على موقع مركز النور وهي منشورة قبلاً في مواقع أخرى كثيرة بمناسبة فوز الفريق الوطني العراقي بكأس آسيا عام 2007، راجياً اياي أن أهتم بالخيال ايضاً اذ هو مفتاح القصيدة الجميلة، ولا اهتم بالمكياج وهما الوزن والقافية فحسب. ورددت عليه حينها بقصيدتي الموسومة (مَنْ قال أني شاعرٌ).
عبد الستار نورعلي الأثنين 15 مارس/آذار 2010
|