العراق وفقدان الهيبة

عبد الستار نورعلي

الهيبة كصفة شخصية في وعي الناس تعني الاحترام للمقابل والنظر اليه برقي وعلو شأن مصحوباً بالتصرف المحسوب حسابه في التعامل مع المهيوب خارج اطار الإساءة ، والتفكير أكثر من مرة عند محاولة الردّ لأي سبب كان وخاصة عند الأزمات ليكون التعامل بحكمة ورويةٍ وعقلانية مبنية على الجدال بالتي هي أحسن حتى مع وجود عداوة فقد تنقلب العداوة ولايةً حميمةً مثلما ورد في القرآن الكريم.

لاتأتي الهيبة اعتباطاً أو فرضاً بالقوة ، وانما هي خصلة مطبوعة تنبع من داخل الانسان نفسه وجزء من شخصيته الباطنة والظاهرة، حين تتوفر صفات معينة فيه ، أولها احترام الانسان لذاته ، وثانيها احترامه لغيره ، وثالثها الثقة بالنفس وبالقدرات ، ورابعها الحزم في التعامل مع الآخرين عند الخطأ والعدوان ، وخامسها الصلابة والمبدئية والثبات في الأزمات ، وسادسها الحكمة في اتخاذ القرارات ، وسابعها قوة الارادة والوقوف على الرجلين في مواجهة الأخطار والعواصف ، وثامنها عدم التهاون مع الأعداء حالة الاعتداء والرد المناسب المبني على العقلانية والدراسة والتفكير العميق ، وتاسعها عدم التهور في التصرف ، وعاشرها العمل الدؤوب على التزود بكل ما يُغذّي النفس والعقل ويبني الذات والتعلّم من التجارب لفهم ما يجري في الحياة الذاتية وما حول الذاتية كالمحيط الخارجي والبيئة التي ينشأ فيها المهيوب . وفوق كل ذلك توفر العقل الرصين والقلب الثابت والرؤية الثاقبة والحكمة والحِلم والقراءة الواعية لما في الداخل والخارج فردياً وجماعياًً.

وكما أسلفنا لا تأتي الهيبة إكتساباً وانما هي طبع وخصلة وفعل وتصرف عند توفرها يشعر بها المقابل من خلال التعامل المباشر وغير المباشر . أما المهزوز الضعيف غير الواقف على أرض الهيبة الصلبة ويبدي الضعف والهشاشة والهزال ومهما تصرف ليوهم بالهيبة فإنّ المقابل يحس باهتزازه وهشاشته فلا يحسب له حساباً ولا يُظهر له احتراماً ، بل استصغاراً واستضعافاً ووضاعة شأن.

كما أنّ الهيبة لا تكون بالغنى والثروة والعنف والاعتداء على الآخرين وابراز العضلات والارعاب والتخويف والاضطهاد والظلم وادعاء القوة. فكم من فقير لا يملك شروى نقير أو انسان مجردٍ من القوة العضلية والسلاح لكنه مهيوب الجانب محسوب الحساب معروف بعقله الراجح وحكمته وحنكته ورأيه الصائب وهو لذلك محترم له مكانته العليا وشأنه الكبير بين الناس فيستمعون لقوله ويأخذون برأيه ، ومنهم منْ تقلّد منزلة عالية ومكانة كبيرة بين قومه ، ونبينا الكبير صلى الله عليه وسلّم مثال مثلما غيره من الأنبياء والأولياء والصالحين.

إنّ ما ينطبق في باب الهيبة على الأفراد ينطبق على الدول بالضرورة وبنفس السمات والخصائص والصفات. لذا فإنّ أية دولة تريد أن تبني نفسها يجب أن تكون مهيوبة الجانب محترمة الكيان يُحسب لها حساب وتتصرف الدول معها باحترام وتقدير وعلو شأن لكي تتمكن منْ أنْ تبني نفسها بنفسها وبتعاون الآخرين معها، إذ لا يمكن بناء دولة دون علاقات متوازنة مع الدول محيطة أو بعيدة ، صغيرة أو كبيرة ، علاقات تتسم بالاحترام المتبادل والثقة والهيبة . وإلا فستكون الدولة ضعيفة ناقصة الهيبة (مكفخةً) كما نقول بالعامية العراقية ، و(ملطشة للرايح والجاي) كما يقول أخواننا المصريون.

وهيبة الدولة لا تأتي مثلما تحدثنا عن الأفراد بالقوة واستعراض العضلات والاعتداء على الدول الصغيرة والضعيفة مثلما حدث مع الكويت في احتلال العراق لها، أو على الدول الكبيرة حين تظهر وكأنها سقطت وضعفت مثلما حدث مع ايران في حرب السنوات الثمانية. ولا تأتي بالتهديد والوعيد والغنى والثروة النفطية ، فكم من دولة صغيرة دون ثروة أو قوة لكنها مهيوبة بين الدول لها شأنها ومكانتها المحترمة مثل الأردن. ولا تكون الهيبة والاحترام بكبر الدولة أو اتساع مساحتها وكثرة سكانها وتسليح جيشها ، وهذه قطر خير مثال أمامنا دولةً صغيرةً مهيوبةً ، وتلك السودان الكبيرة الواسعة المترامية الأطراف ها هي تتمزّق شذرَ مذرَ دون هيبة أو حساب لها ولوحدة أرضها ورئيسها مطلوب للعدالة الدولية بسبب جرائمه ضد الانسانية..

وفي الحالة العراقية الآن وبعد 2003 هناك فقدان كبير لهيبة الدولة، ويتجسّد ذلك بكثرة التدخلات الخارجية دون وازع أو رادع أو مانع يقف في طريقها لحد اليوم وبعد سبع سنوات من الاحتلال والتغيير. وفي النظر الى التعامل المحيطي والدولي للعراق نلمس الاستصغار والاستضعاف وعدم الاحترام في التعامل المتبادل حتى مع المسؤولين العراقيين الذين يزورون الدول وخاصة الدول العربية ، حيث يظهر المسؤول العراقي امام قادة تلك الدول وحتى الذين منهم من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بمظهر الخاضع والضعيف والمتسوّل بحثاً عن علاقة. وآخرها ما تقوم به السلطات السعودية من اعدام لعراقيين ابرياء وبحد السيف وهم لم يقوموا بما يُعكّر أمن السعودية ولم يذهبوا ليقوموا بأعمال ارهابية. وبالمقابل سلّم العراق أعداداً من الارهابيين السعوديين الذين قتلوا المئات من العراقيين الأبرياء في الأسواق والشوارع والساحات والبيوت داخل وطنهم ذبحاً أو تفجيراً بمفخخاتٍ وجازاهم العراق بتسليمهم الى بلدهم ليلقوا كل تقدير واحترام واثابة على أعمالهم وليكونوا مثالاً يحتذيه شبابهم المتعطش الى قتل العراقيين حقداً دفيناً مغلفاً بشعارات دينية كاذبة وخلفها اجندات سياسية. فكيف سيكون موقف السعودية من العراق في هذه الحالة غير الاستصغار والاستضعاف والاحتقار. وكذا مع الدول العربية الأخرى صغيرها وكبيرها ، فلم يكن الردُّ العراقي المقابل بالمستوى المفروض لما قامت به هذه الدول سواءً على مستوى القيادات والحكومات أو على مستوى الشعوب وبعض أفرادها ، فلم يكن الردّ حازماً قوياً ليكون للعراق هيبة بين الدول.

وهذه الهيبة مفقودة حتى داخلياً عند العراقيين انفسهم ، ومظاهر فقدانها كثيرة واضحة تحدث يومياً سواءً من خلال التفجيرات الارهابية أو الاغتيالات أو المافيات وانتشار العصابات الاجرامية أو الاختلاس والرشوة وسرقة المال العام أو الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة بشكل أصبح ظاهرة عامة ، لتصبحَ الوطنية والحرص على المال العام والاخلاص في العمل ونظافة اليد والسيرة شواذاً يسخر الناس منها. أما تزوير الشهادات فالحديث فيه ذو شجون وآلام لا تنتهي ، وأبشع ما جرى بهذا الشأن هو العفو الذي صدر عن حَمَلتها من المزوِّرين وبقاؤهم في مواقعهم الوظيفية التي تسلموها وفق ما يحملون من شهادات ، وهي كارثة كبرى إذ كيف يقود مزوّر بلداً ويدّعي أنه يعمل على بنائه ومن موقعه؟!
وأي بلد هذا الذي يُبنى بالمزورين والفاسدين واللصوص ؟!
وأية هيبة سيكون لها بين شعبها؟ فكيف بالآخرين؟!

لذا لا غرابة أن يكون العراق فاقداً للهيبة و(مكفخةً) للآخرين و (ملطشة للرايح والجاي)!


 

Back