هل أخطأ الفيليون في التشبث بالوطن عبد الستار نورعلي
أيا مطرَ الربيعِ، إغسلْ وجهَ العراقْ ، ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعدَ قطرهْ، تباركَ اسمُ العراقْ ، تباركَ مَنْ سالَ دمُهُ على جذع نخلةٍ في الجنوبْ، تباركَ منْ طارَ جذعُهُ شظايا على قمةٍ في الجبالْ، تباركَ كلُّ منْ صاحَ: ياعراقْ! .......... هذا ما كتبتُهُ أنا العراقي الكردي الفيلي ربيع عام 1992 وأنا في مهجري ببلغاريا وقطرات المطر تنقّر وجهي وعينيّ متذكراً وطني يلهبني الحنين والشوق الى بغداد مسقظ رأسي مثلما يلهب عائلتي. وكتبتُ في مهجري في السويد وفي قصيدة (الرحيل) 1995: صرنا محطاتٍ حقائبَ تسمياتٍ في جوازاتٍ مزورة نزعنا كلَّ رسمٍ غيرَ اسمك ... من أين جئتَ ؟ من العراق وأين شبتَ ؟ في العراق وأيَّ ثوب ترتدي ؟ نخلَ العراق
منذ بدأت النشر شعراً ونثراً ومن عام 1965 وحتى اللحظة هذه وفي كتاباتي السياسية كان للوطن (العراق) حصة الأسد في التعبير عن قضاياه ومعاناته وشعبه ومن منطلق التزامي الأدبي الذي واظبتُ على الاستمرار فيه الى اليوم وكذلك الوقوف الى جانب قضايا الشعوب عامة في العالم ومنها الشعب العربي الذي كان له الحصة الثانية وفي قضية فلسطين بالذات والكتابة فيها، وعليها نلتُ تكريماً من منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) في السبعينات من القرن الماضي. ومعذرة فهنا لستُ في صدد الحديث عن الذات ، وانما في ايراد مثل ذاتي قريب ومعروف. فهناك أمثال كثيرة لكتاب وأدباء آخرين كالقاص المرحوم عبد المجيد لطفي والشاعر المرحوم زاهد محمد وغيرهما إذ لسنا في مجال تعداد اسماء واستقراء بحثي.
لقد خدم الفيليون وطنهم في كلّ مناحي الحياة الوطنية العراقية وحتى العربية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وحتى قتالياً . شارك أبناؤهم في الجيش وفي كلّ الحروب التي مرّت بالعراق فسقط منهم شهداء . كما شاركوا في حرب فلسطين عام 1948 ومنهم ابن عمي المرحوم قاسم موسى ملا نظر الذي لم يُمنح شهادة الجنسية قط ومات غمّاً في فراشه عام 1980 بعد حملة التهجير الظالمة الوحشية متخفياً خشية التسفير. كما شاركوا في حرب حزيران 1967 وقدموا شهداء منهم ابن أخت المرحوم قاسم وهو الشهيد عبد الجبار كريم الذي سقط شهيداً في الأردن. وبالتأكيد هناك غيرهما الكثير . فهل بعد الشهادة بالنفس شهادة وطنية أعلى وأكبر وأنصع ؟! وقد قال الشاعر: والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ
كما شارك الشباب الفيلي في النضال الوطني داخل الاحزاب والتيارات السياسية العراقية ومنذ القرن المنصرم ومن بداياته ، فكان لهم دورهم في هذا النضال ، وعانوا بسببه الكثير من الاضطهاد والظلم والملاحقة والسجن والنفي. وربما كان هذا من أسباب ما لحقهم من تمييز ومطاردة وتهجير وطمس للحقوق وانكار لهوية المواطنة من خلال عدم منحهم الجنسية العراقية أو مصادرتها وخاصة بعد حملة التهجير القسرية الظالمة عام 1980 ، وكذلك من خلال التمييز الذي عانوه في الوظائف الرسمية والقوات المسلحة وفي الدوائر الحكومية وفظاظة التعامل معهم في مراجعاتهم لهذه الدوائر ولحد اليوم وبعد التغيير. كلّ ذلك بسبب النظرة اليهم كمواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. وهذا إرث أسود عنصري وطائفي وسياسي استمرّ ولا يزال راسخاً في نفوس وثقافة البعض بتأثير الأنظمة الاستبدادية والعنصرية التي حكمت العراق والتي ربّتْ الناس عليها جيلاً فجيلا.
ورغم كل ما تعرض له الكرد الفيليون فقد ظلوا متمسكين بأرضهم ووطنهم ، يحبونه ويحنون اليه مهجّرين ومغتربين ، فهو مسقط رؤوسهم ومربع صباهم ومقرّ سكناهم فقد تركوا ذكريات جميلة خلفهم ، وبيوتاً صودرت بعد تهجيرهم ، وأموالاً نُهبتْ ، وأبناءً حُجزوا واغتيلوا ظلماً دون ذنب اقترفوه إلا أنّ عوائلهم قد هُجّرت، فاختفوا في مقابر جماعية لم يعثروا على آثارها لحد اليوم.
عُرف عن الكرد الفيليين كلّ الصفات الانسانية الطيبة والحميدة وقد أرّخها المؤرخ العراقي الاستاذ د. سيار الجميل إذ يقول عنهم في بحثه القيّم الموسوم (الفيليون العراقيون: طيفٌ رائعٌ سحقهُ الاستلاب !): " وباستطاعة العراقيين أن يميّزوا جملة من التقاليد والخصال التي يعيش عليها هذا الطيف المسالم الذي يقف العمل في مقدمة قيمه ، ثم المصداقية ، ثم النظام والدقة .. وقبل هذا وذاك الإبداع من جانب والإخلاص سواء للوطن أو لروح الجماعة .. فضلا عن التحمّل والصبر..... ............................................ وأنهم يتمتعون بالقوة والمهارة في الحرفة والتفكير معا وان ردود أفعالهم قوية ضد الخطأ ، وأنهم أمناء في نقل المعلومات أو المواد والأشياء ، ولهم اهتمامهم بالروح المنزلية وتربية الأطفال وسرعة الاندماج مع الآخرين ويستنكرون التواكل والكسل فضلا عن واقعيتهم في معالجة الأمور بعيدا عن التهويم ."
يؤكد الدكتور الجميل هنا على مجموعة خصال حميدة في الفيليين ومنها خصلة الاخلاص للوطن والمصداقية والمسالمة، وهذه شهادة مؤرخ عراقي عربي باحث دقيق في تشخيصه، لا ينطلق من التحيز أو العاطفة أو الموالاة أو المجاملة والمحاباة بل من منطلق البحث التاريخي العلمي الموضوعي. إذن فالاخلاص للوطن النابع من حبه والتعلق به هو من أبرز ما يمتاز به الفيليون. وقد يكون اخلاصهم أكبر من ادعاء البعض ممن يعتبر نفسه وطنياً مدافعاً حريصاً على العراق ، بينما هو ينهش لحمه وينخر فيه من الداخل نهباً وفساداً وارتباطاً بالاجنبي خارج الحدود. فمن خلال معايشتنا الحياتية الشخصية لشريحتنا لم نعثر يوماً على خائن لوطنه أو بائع ذمته لأجنبي او خادم لأجندات خارجية بالضد من مصالح وطنه أو سارق للمال العام أو فاسد ومفسد مثلما وجدناه ونجده عند الكثيرين من ادعياء الوطنية . والاستاذ د. سيار الجميل من خلال استقرائه البحثي العلمي الذي لا لبس فيه يؤكد بقناعة وشهادة تاريخية موضوعية على وطنيتهم وعراقيتهم حين يقول: " كان الفيليون من أكثر العراقيين التصاقا بعراقيتهم"
ومن خلال المعايشة الحياتية للبيئة الفيلية وتاريخها الاجتماعي والسياسي اليومي العائلي والشخصي الذاتي والملاحظة والمتابعة الميدانية لم نجد يوماً من الفيليين شيباً وشباباً رجالاً ونساءً من أساء أو حاول أنْ يسيء الى وطنه بشكل أو بآخر أو خانه ورغم كلّ ماتعرضوا له ويتعرضون من ظلم واجحاف وتهميش وتمييز. ولقد قلتُ في احدى قصائدي عن شريحتنا:
ما كانَ فيهمْ خائنٌ متربّصٌ بالرافدينَ ولا فساداً جاؤوا
وأظنّ أنّ الشعر تعبير عمّا في روح الشاعر وقلبه وعقله ومن خلال تجاربه الحياتية الذاتية والجمعية ومشاهداته ومعايشته للواقع. وبذا فإنّ ما جاء في البيت أعلاه تعبير عن واقع معاش وتجربة حياتية ملموسة.
ويؤكد كذلك الاستاذ د. كاظم حبيب على هذه الخصال ومنها الاخلاص للوطن حيث يقول في مقالته الموسومة (حول الكُرد الفيلية ورسالتي إلى السيد نائب رئيس الجمهورية): " إن معرفتي بالكُرد الفيلية تعطيني الحق بالقول بأنهم يشكلون جزءاً أصيلاً من هذا الوطن الحبيب , وأنهم مخلصون لهذا العراق ولأهله وبعيدون كل البعد عن التهمة التي وجهت لهم في كونهم يمكن أن يصبحوا يوماً عيوناً وعوناً لإيران على العراق. إنهم لا يختلفون عنكم وعني وعن ملايين العراقيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية في إخلاصهم للوطن وحبهم للرافدين وعشقهم لبغداد وحنينهم لها , إنهم بنات وأبناء هذا الوطن , كما هو حال أهل باب الشيخ والأعظمية والكاظمية والكرادة والرصافة والكرخ والعمارة وديالى والرمادي والفلوجة والسليمانية وأربيل والبصرة والموصل وبقية مناطق العراق الأخرى".
كما يثبت الاستاذ د. عبد الخالق حسين هذه الحقيقة الناصعة المتأصلة في الفيليين مشيراً ومؤكداً على أصالة عراقيتهم الممتدة الى عمق التاريخ إذ يقول في مقالته ((محنة الكرد الفيلية.. حتى في العراق الجديد؟): " وهم عراقيون عن أب وجد إلى ما قبل التاريخ المكتوب. فهذه الشريحة قدمت المئات من الشخصيات اللامعة في مختلف المجالات: الحركة الوطنية، والسياسية، والاقتصادية، والتجارية، والثقافية والفنية..الخ"
وبذا يؤكد الباحثون الكبار ممن لا شك في علمهم ونزاهتهم وموضوعيتهم وصدقهم على أصالة ووطنية وعراقية الكرد الفيليين مما لا لبس فيه ولا جدال ولا شكّ بأنهم متعلقون ومتشبثون بوطنهم وأرضهم وشعبهم يحنون اليه بحرقة وهم في مهاجرهم ومغترباتهم يعانون ، ومستغلين كلّ فرصة متاحة لزيارة بلدهم والتزود بهوائه ومائه وعبير ترابه ومتابعة حقوقهم المستلبة لاستعادتها لكنّ العراقيل لا تزال كثيرة أمامهم مثلما ي السابق.
وبعد كل هذه الوطنية والمعاناة والتي يؤكد عليها الباحثون وكذلك الفيليون أنفسهم من خلال تحركاتهم فردياً وجمعياً ، وبعد كلّ معاناتهم وفقدانهم للآلاف من شبابهم في غياهب المعتقلات والمقابر الجماعية من الذين حجزهم النظام الساقط أثناء حملة التهجير في ثمانينات القرن الماضي ، بعد كل ذلك نجد أنّ البعض لا يزال يحمل في نفسه عُقَد الماضي العنصرية والطائقية والسياسية في تعامله مع قضية الكرد الفيليين. وما جرى في جلسة مجلس النواب العراقي يوم 4/4/2011 بمغادرة النواب قاعة المجلس حين الاعلان عن مناقشة قضية اعتبار ما جرى للكرد الفيليين من تهجير وقتل ومصادرة بيوت وأموال ووثائق المواطنة العراقية منهم واغتيال الآلاف من شبابهم واخفاء آثارهم جريمة ضد الانسانية (جينوسايد) مثلما جاء في قرار المحكمة الجنائية العليا في محاكمة المتهمين في قضية تهجير الكرد الفيليين، حيث بقي في القاعة 33 نائباً فحسب وبذا لم يكتمل النصاب للتصويت على القرار . وكان ذلك بعد صرخة النائبة من التيار الصدري ، الذي عُرف عنه الدفاع عن المظلومين والمضطهدين وبخاصة في عهد النظام السابق ، وهي النائبة مها الدوري والتي كانت صرختها اشارة الخروج وشهادة على أنّ العقد العنصرية والطائفية لا تزال معشّشةً في نفوس البعض . والداهية أنها تعشّش في نفوس وعقول بعض السياسيين والنواب والقادة الذين يقودون عراق التغيير اليوم. ويبدو أن التغيير لم يُغيّر ما في النفوس وانما غيّر ما في الكراسي والجيوب!! فهل بعد هذه المهزلة مهزلة في عراق اليوم؟ ولا تندهشوا إذا صرخنا متسائلين: هل أخطأ الكرد الفيليون في الاخلاص للوطن والتعلق به والتشبث بترابه؟
عبد الستار نورعلي الأحد 10/4/2011 ................................................................................................................... روابط ذات صلة: بحث الدكتور سيار الجميل: http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20100915-1883
مقالة الدكتور كاظم حبيب: http://al-nnas.com/ARTICLE/Khabib/7feli.htm
مقالة الدكتور عبد الخالق حسين: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=243325
|