الكرد الفيليون ، ماذا يريدون ؟ ومن يمثلهم؟

عبد الستار نورعلي

 

حين كنت في السادسة من عمري أخذني من يدي ابن عمي المرحوم جعفر صادق ملا نظر المثقف والسياسي البارز حينها وتوجه بي الى مدرسة الفيلية الأهلية الابتدائية في باب الشيخ ببغداد ليسجلني في الصف التمهيدي قبل الصف الأول. وكنت سعيداً أكاد أطير من الفرح. عالم جديد وأصدقاء جدد رغم أن أكثرهم لم يكونوا بغرباء ، فبعضهم أبناء محلتي ، والبعض من الأقارب والمعارف من الكرد الفيليين الذين يسكنون في المنطقة والمناطق الموزعة في شارع الملك غازي (شارع الكفاح بعد ثورة الرابع عشر من تموز) ، لأنه الشارع الذي كان قد شهد كثيراً من نضالات الشعب العراقي ، وانطلقت منه الانتفاضات 1948 و 1952 ، والمظاهرات والنشاطات السياسية والسياسيون والأدباء والرياضيون ورجال الأعمال والموظفون والعمال والكسبة والعسكريون وحتى الشقاوات.

 

مدرسة الفيلية الابتدائية تأسست عام 1946 بجهود مجموعة من التجار والمثقفين الكرد الفيليين الذين أسسوا (جمعية المدارس الفيلية الأهلية) من أجل استيعاب أبناء الكردالفيليين الذين كانت المدارس الرسمية ترفض قبولهم.، كان دافعهم خدمة الشريحة الفيلية المضطهدة  ولإدراكهم أهمية العلم والتعلم في حياة الأمم والجماعات. كان دافعهم الوحيد هو حرصهم على ابناء جلدتهم واخلاصهم وحماسهم والمصلحة العامة الفعلية لشريحتهم المهمشة والمعانية. لم يكن خلف جهدهم ذاك أية مصلحة ذاتية أنانية أو بحث عن شهرة أو مكسب مادي أو الوصول الى منصب أو التقرب من الحكام والمسؤولين أو المسح على الأكتاف أوالميل الى هذه الجهة أو تلك ممن يمتلكون القوة والنفوذ ، علماً بأن الفترة التاريخية التي أسسوا فيها الجمعية لم يكن فيها كل هذه الأسباب والمظاهر التي تكمن خلف ما يحدث هذه الأيام وسط الكرد الفيليين المشتتين والمبعثرين في ارض الله الواسعة ، وعلى كل خرائطها القريبة والبعيدة.

 

كان الرواد الأوائل في العمل العام للكرد الفيليين ديدنهم الخدمة الفعلية المجردة من الغرض والهدف الأناني سوى الخدمة المخلصة ، لذا لم يكن بينهم أي اختلاف أو خلاف أو صراع على المصالح أوالنفوذ أو الوصولية أو محاولة التسلق السياسي ورفض الآخر، أو العمل على الطعن فيه والتشهير والاتهام والاسقاط والتزوير والكذب، على الرغم من وجود تمايز واختلاف في الرأي والموقع والمنزلة الاقتصادية بين الرواد اولئك. كانوا كتلة واحدة متراصة يقف خلفهم أبناء شريحتهم بثقة واحترام وود يثمنون عملهم ودأبهم وجهدهم المشكور. وبذلك كانوا المرجع الذي يعودون اليه فيما يعانونه في حياتهم العامة، فكانوا صوتهم الذي يصل الى السلطات في الدفاع عن حقوقهم المهضومة، وواجهتهم المشرقة أمام الأطياف الأخرى في المجتمع العراقي. على الرغم من انهم كانوا جمعية للمدارس الأهلية الا أنهم أخذوا على عاتقهم مهمات أخرى ليس اقلها المساعدة الاقتصادية للفقراء الفيليين من خلال إعفاء ابنائهم من الأجور المدرسية وكذلك منحهم الكسوة الشتوية والصيفية ، الى جانب ما ذكرنا من المهام التي كانوا يقومون بها. ولذلك كان أولئك الرواد خير من يمثل الكرد الفيليين، ولو كان يحق لهم حينها الترشيح للبرلمان لاختارهم الفيليون دون تردد وبالأجماع لأنهم كسبوا ثقتهم وحبهم.

 

ثم مر على الكرد الفيليين ما مر من الاضطهاد والتعسف والتهجير والتشريد والسجن والاعدام لشبابهم الجميل المتفتح للحياة الذين  حجز الآلاف منهم بعد تهجير أهاليهم وتم اعدامهم وظهور البعض منهم في المقابر الجماعية واختفاء آثار اكثرهم حتى اليوم. وبعد التهجير لم يكن حال الفيليين بأفضل مما عانوه في العراق من تمييز واضطهاد ، مما أضطر الألوف المؤلفة من العائلات الى الهجرة الى بقاع العالم المختلفة وقاراتها بحثاً عن حياة جديدة آمنة لهم ولأطفالهم فتوزعوا في البلدان المختلفة ليبدأوا العيش من جديد من الصفر. وكان من المفترض ومن المنطق الموضوعي أن يكون في هذه المعاناة والمآسي القاسية التي تعرضوا لها جميعاً عامل للإحساس بالألم المشترك والجراح والمصائب الموحدة فيؤدي الى التقارب والتوحد والانسجام والعمل الجماعي المشترك من أجل الصالح العام للكرد الفيليين بعيداً عن الأمراض الاجتماعية والنفسية الفردية والجماعية.

 

أية جماعة أو أمة تتعرض للمصاعب والمصائب والنكبات تقف موحدة في مواجهتها والتصدي لها ولظواهرها وما تجره من علل وانكسارات ، وذلك لتجاوز الآلام والنتائج السلبية لإصلاح ما يمكن أصلاحه. لا أن تكون المصائب والنكبات هذه سبباً للفرقة والتصارع والركض وراء المصالح الذاتية الأنانية. والأدهى هوالتحدث باسم الكل وتمثيل الجميع دون اختيارأو انتخاب عام معترف به ، اللهم الا عدد لا يتجاوز اصابع اليد، أو من خلال تأسيس جماعات واتحادات وجمعيات واحزاب على شكل دكاكين لأفراد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد. وكل هذا الصراع وادعاء التمثيل ليس الا من اختلاق شخصي وعلاقات خاصة ومصلحة لا تخرج عن الذات والاستحواذ على جزء من كعكة منصوبة وبيت محروق. فمن باحث عن صفقة تجارية ، ومن راكض خلف مقعد برلماني ، ومن مسرع  وراء نفخة كذابة وشهرة زائفة سرعان ما يرفع البرقع عنها، ومن ماسح لأعقاب فلان وفلان عسى أن ينال شيئاً. ولا أحد يمثل أحداً غير نفسه. وكفى اللعب على مأساة أهلنا وأبنائنا الذين يتاجر البعض بأشلائهم الطاهرة أويرفع قميص أخ أو أخت أو زوج أو ابن أو أب ضاع دمه النظيف النقي وتشظى جسده الطاهر في مقبرة جماعية. وذلك من أجل لعقة من كعكة لا تدوم لأحد ويتصارع عليها الآلاف..!!

 

وقد قيل: لو دامت لغيرك ما وصلت اليك..!!! فليس الكثيرون من مثيري الضجيج وأدعياء الوجاهة والعلم والفهم صادقين في ضجيجهم وصخبهم الا لأنفسهم. وهو مربط التشتت والتفرق والتقزم والاختلاف المرضي الموصل الى الصراع غير الموضوعي والنفعي الذاتي. وهو الذي لا يستطيع ولا يؤدي الى الجمع والتوحد خلف هدف واحد موحد وكلمة فصل ملتحمة ، وخاصة اذا كان مدعي تمثيل الكرد الفيليين لا يمثل الا نفسه ولا يحظى برضى أحد الا ذاته وما يروم الحصول عليه من مغانم.

 

والمؤلم أكثر أن بعض المثقفين من الكرد الفيليين الذين يصرخون ليل نهار ساروا وراء الركب في البحث عن الأدوار. ويبدو أن التقدم الحضاري والثقافي يجر معه كذلك أمراضاً كثيرة ليست الاجتماعية والسياسية الا احدى وجوهها، مع أن التقدم ظاهرة موازية وبانية للوعي الفردي والجماعي عند الأمم، بحيث تستفيد من ايجابياته للقفز الى الأمام ، وتلقي سلبياته خلفها تجنباً لتفشي الأمراض المصاحبة والخطيرة على مستقبلها ومصالحها وحياة أبنائها. والظاهر لعياننا أن جماعتنا لم يستفيدوا من التقدم والثقافة والديمقراطية في المجتمعات المتقدمة والمتحضرة التي يعيشون بين ظهرانيها الا القشور, اما الروح فلا زال يعشعش فيها نوازع البحث عن المظاهر الوهمية والظواهر المرضية المكتسبة من أيام قارون وفرعون.       

 

مأساة الكرد الفيليين الآن شبيهة بما قاله يوماً المرحوم الشاعر نزار قباني:

 

السر في مأساتنا

صراخنا أضخم من أصواتنا

وسيفنا أطول من قاماتنا

 

خلاصة القضيه

توجز في عباره

لقد لبسنا قشرة الحضاره

والروح جاهليه      

 

 

عبد الستار نورعلي

الجمعة 2- 12- 2005