قراءة في دفاتر الشاعر محمود الريفي* عبد الستار نورعلي مقدمة * محمود الريفي : شاعر عراقي من جيل المجددين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين. اشتغل في سلك التعليم . كان مزاملاً ومجايلاً للشعراء بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وحسين مردان ومحمود البريكان، كما كان مزاملاً لغيرهم من الشعراء والأدباء الكبار أمثال الشاعرين الكبيرين محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم، وكانت له ذكريات معهم جميعاً اعتاد روايتها لنا ولتلاميذه. كان مقدراً له أن يكون أحد أبرز شعراء العراق المجددين المعاصرين في مقام السياب والبياتي، فهو فعلاً شاعر قديرمعروف لدى أوساط جيله ومن جاء بعده، لكن العمل السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي شغله وسرق من وقته الكثير، بين النشاط والمطاردة والاعتقال والسجن في ظل الأنظمة المختلفة التي مرت بالعراق منذ العهد الملكي وآخرها النظام الديكتاتوري السابق. أصبح عضواً في نقابة المعلمين بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 ، وعضواً في هيئة تحرير مجلة (المعلم الجديد) التي كانت تصدرها النقابة. كما عمل في تحرير مجلة (المثقف الجديد). كان أستاذاً للغة العربية ، وقد عملنا معاً في إعدادية الشروق في مدينة الحرية ببغداد في ثمانينات القرن الماضي حتى احالته على التقاعد. ظل مواظباً على كتابة الشعر في دفتر خاص أتذكره، يقرأ لنا منه كلما زرناه أنا والصديق العزيز أستاذ اللغة العربية ياس ناصر حسين (أبو وائل)، لكن الظروف السياسية ومواقفه الصلبة كانت مانعة في نشر شعره وابداعاته. لقد نال منه وأرهقه العمل السياسي والمطاردة والفصل من الوظيفة والسجن والمشاغل العائلية. ومن نكباته التي أصيب بها أن ابنه البكر شاكر اُعتقل في عهد النظام البعثي السابق بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي، حيث اختفى تماماً، لتتسلم عائلته بعد زمن شهادة باعدامه دون ان يستلموا جثته التي اختفت في المقابر الجماعية. كما توفيت زوجته الأولى أم شاكر إثر مرض عضال. وقد تم اعتقاله لفترة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي إثر وشاية من أحد تلاميذه. بعد احالته على التقاعد وبسبب الظروف المعيشية الصعبة في التسعينات عاد مضطراً الى الكتابة ليكسب رزقه ويقيم أوده. ومع المرارة والأسف الشديدين ليست تحت أيدينا نصوص من شعره كي نتمكن من نشرها والكتابة عنها. القصيدة التالية (قراءة في دفاتر الشاعر محمود الريفي) كتبتها عام 1999 تذكيراً وتكريماً مني لهذا الصديق الطيب والانسان المناضل الشجاع والشاعر الرائع وأستاذ اللغة العربية المقتدر، بعد أن انقطع اتصالي به وبأخباره منذ هجرتي من وطني في الأيام الخمسة الأخيرة من عام 1991. المؤسف أنني علمت مؤخرا أنه توفي في العام الماضي من تلميذه وملازمه أيام الدراسة الثانوية الشاعر المبدع عبد الرزاق الربيعي الذي ساهم بكلمة تكريمية تذكيرية تليت عنه في الحفل الذي أقامه اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين استذكاراً له بعد طول اغفال واهمال ونسيان. أصدر الشاعر الراحل محمود الريفي ديواناً وحيداً في مطلع الخمسينات (هواجس الطريق) ، وله ديوان مخطوط (لي وللآخرين). نشرت هذه القصيدة في حينها في مجلة (المدى) الأدبية التي كانت تصدر في دمشق، وفي صحيفتي (الزمان) العراقية في لندن، و(ريكَاي كوردستان) صحيفة الحزب الشيوعي الكوردستاني العراقي في أربيل، ثم على مواقع الانترنيت. وأعيد نشرها الآن أيضاً احياءا ً لذكراه وتأريخاً له، وتذكيراً بشاعر قدير وانسان كبيرغفله وتغافل عنه الكثيرون وظلمته واضطهدته الأنظمة بسبب فكره واتجاهه. القصيدة الصمتُ جدارٌ نوصدهُ في وجهِ الحبْ * * * * في جوفِ الصمتِ صدىً يأتي منْ بين الأنقاضْ يوقدُ شمعتهُ إزميلاً في صدرِ الليلْ في النهرِ النابعِ منْ قلبٍ أتعبهُ سفرُ الأيامْ نبضُ الأحلامْ كانتْ تكبرُ .... تكبرُ .... حتى تغدو في سعةِ الأيامْ فتحلقُ فوق هديلِ عيونِ الخلقْ يسهرُ .... يسمرُ .... يتحدثُ عنْ خيلٍ سـوَّمها أيدي الفرسانْ يخفقُ فوقَ نواصيها الخيرُ الأجرُ وسواقي المغنمُ وصهيلُ الكلماتْ . يحلمُ .... نهرٌ منْ عسلِ الجنةِ يجري في ساقيةِ القريةِ ويصبُّ على القلبِ رقيقاً نبضاً من شجرِ الفردوسْ ما بينَ رفيفِ النورْ ما بينَ حفيفِ الأشجارْ وخريرِ مياهِ النهرينْ وبيوتٍ هدَّ رواسيها صدأ الأحزانْ يغدو عسلُ الجنةِ حرفاً قافيةً من نورٍ من نارْ .... يعلو أهدابَ الأغصانْ في الغدرانْ في الأنهارْ في الأهوارْ تنسابْ الكلماتْ صراخاً ..... شلالاً يعلو الأسوارْ نبضاً من فيضِ الأنوارْ يسبحُ في سيلِ التيارْ لونَ البردي ، ولونَ نخيلِ الأهوارْ ، في الوديانِ ، وفي الأزهارْ فوق الجبلِ الصامدِ أبداً في الإصرارْ * * * * الصمتُ جدارٌ يبنيهِ أحفادُ الصمتْ * * * * وشرعتَ تحاورُ أحلامكْ تنظرُ في أصداءِ الأرضْ في حضنِ النخلِ على ضفةِ النهرْ وضياءُ القمرِ الساهرِ يغرقُ سحبَ الكلماتْ أطعمتَ الريشةَ رائحةَ المطرِ القادمِ لونَ الأحرفِ صوتَ النارْ ورسمتَ الحبَّ ضياءاً في عيني طفلٍ حفرتْ في وجنتهِ الأعوامْ تعبَ الأبْ ، تنويمةَ أمٍ أرهقها حزنٌ سفرٌ في الريحْ دفءٌ منْ أحضانِ الحبْ طيفٌ حلَّق في كوخِ القصبِ ، وفي الطينْ ، أزقةِ مدنٍ يخنقها وجعُ التاريخْ وسيفُ غزاةِ الأحزانْ الطوفانْ منفى الإنسانِ هناك ..... هنا ...... يبحثُ عن رابيةِ العشقِ ..... هناك ......... هنا .......... فيذوبُ على الأقداحٍ الألوانْ ..... إنك تغفو اليومَ أمامَ الجدرانْ فتقاومُ ألماً دارَ .... ألماً يستأنفُ دورتهُ .... سكيناً يحفرُ في القلبِ وفي العينينْ وفي ذاتِ الأكمامْ أنتَ تنامْ ..... !! لا يدري أحدٌّ تدري أنتَ ، وأدري صمتاً كنتَ ... قهراً كنتَ .... * * * * يوماً أشعلتَ قناديلكَ فجمعتَ القلبَ ..... الأوراقَ ..... الكتبَ المنفية َ ...... الماضي .... الحاضرَ ..... كي تستأنفَ صوتكَ تشحذهُ .... تدربهُ .... علكَ تحكي ، تطلقُ صرختك المأسورة ............... فيعودُ الشوقُ ، الحبُّ ، الكلماتْ ..... * * * * لكنَّ الصمتَ جدارٌ يبنيهِ أحفادُ الصمتْ * * * * وقرأتَ .... كنتُ أنا ، هو ، أنتَ ، وقرأتَ ما كنتَ تقولُ وما تحكيهِ في السرِّ تحاورُ نفسكَ في صومعةٍ دونَ الضفةِ دونَ نخيلِ الأهوارْ والأقمارْ وخريرِ النهرِ ، حفيفِ الأغصانْ في صومعةٍ جدرانٌ أربعة ٌ شُباكان وجدارٌ عالٍ خلفَ الشباكْ وبقايا أشجارٍ أطفأها سبخُ التربِ وملحُ مياهِ القضبانْ كنتُ أنا ، هو ، أنتَ ، وقرأتَ : هذا صوتي في صمتي في الصمتِ .... وقرأتَ ..... دهرٌ مرَّ منذ سمعنا صوتك آخرَ مرَّه . هذا محمودُ رفيقُ السيابِ سميرٌ من سُمار ليالي الألفْ ينطقُ بحكاياتِ الوطنِ ، النخلِ ، وأعذاقِ التيارْ ، والأقمارْ فوق جبينِ الأزهارْ ينطقُ في عينِ الطفلِ على يدهِ كسرةَ خبزٍ ، حافي القدمينْ . ينطقُ ، ويصولُ . توصدُ في الوجهِ الأبوابْ فينامُ على صوتِ البواباتِ المغلقةِ تصرُّ بأيدي السجانْ ماذا في جيبكَ ، في قلبكَ ، في رأسكَ ؟! مزِّقْ ...! إكسرْ ...! اصمتْ ..! * * * * الصمتُ جدارٌ يبنيهِ أحفادُ الصمتْ * * * * وقفَ السيابُ يناجي خليجَ الأحزانْ ، ونشيجَ البحرِ الساكنِ ، شباكَ وفيقةَ ، عينيها ، غاباتِ النخلِ مطرَ النهرينْ .... ووقفتَ ببابِ الجدرانْ ، القضبانْ ، الصمتُ ينادمكَ .... تنادمهُ .... يلتفُّ عليكَ .... ويلتفُّ .... صدئتْ في الصدرِ الأضلاع ْ ، سقطتْ في أرديةِ الأخوانْ القضبانْ ......................
الأحد 1999-2-14 |