نازك الملائكة بين الشكل والمضمون

عبد الستار نورعلي

 

لاتزالُ جدلية البحث في أسبقية الشاعرالذي كتب القصيدة الأولى في الشعر الحر (شعر التفعيلة) بدر شاكر السياب أم نازك الملائكة مستمرة . كلٌ يأتي بدليل مستند الى تاريخ كتابة القصيدة وظروفها. وكل ذلك لمنح الريادة لأحدهما على الآخر. وهناك من يرى بأن بلند الحيدري هو أسبق منهما بالاعتماد على انه نشر ديوانه الأول (خفقة الطين) في منتصف عام 1946 قبل ديوان نازك الملائكة الأول (عاشقة الليل) أوائل 1947 ، وديوان بدر شاكر السياب الأول (أزهار ذابلة) أواسط 1947 .

 

في عمليات التجديد في الابداع الفني ومجايلة المبدعين المجددين لبعضهم تثار مثل هذه الأسئلة ويحدث الخلاف في الرأي . وأحياناً يبدو الأمر وكأنه الأهم في مسيرة العملية التجديدية أكثر من أهمية موضوعة التجديد والتحديث والعصرنة نفسها في فنون الابداع المختلفة.

 

الشاعرة الراحلة نازك الملائكة ( 1922- 20 حزيران 2007 ) هي أحد أهم وأكبر الاسماء في حركة تجديد الشكل في القصيدة العربية الكلاسيكية العمودية في القرن العشرين الى جانب بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق والعالم العربي . لكن السؤال الذي يجب أن يتجرأ النقاد والباحثون في البحث فيه هو: هل هي أهمهم ؟

 

لقد بدأت الشاعرة الراحلة مجددة ورائدة في قصيدة التفعيلة (الشعر الحر) ، لكنها تراجعت بعد زمن الى الشكل الكلاسيكي ، حين كانت تؤكد في اطروحاتها النقدية على اهمية التفعيلة (الايقاع) في حركة التجديد وقد كتبت في ذلك وفي كتابها النقدي المهم (قضايا الشعر المعاصر) ، وبذا دخلت عالم النقد والتنظير أيضاً لتكون مبدعة كبيرة ومهمة فيه. بينما تجاوزها بدر شاكر السياب في التجديدية الشعرية مع عمره القصير 1926- 1964 ، وكذا عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ، وهم جميعاً بدأوا معاً حركة التجديد هذه وفي نفس الزمن ، علماً بأن الشعراء الرجال الثلاثة ولدوا في عام 1926 الذي أسماه السياب عام العبقرية في العراق لأنهم كشعراء كبار ومجددين مهمين ولدوا فيه ، في حين ولدت نازك عام 1922 .

 

نازك الملائكة ولا شك من أكبر الشعراء العرب المبدعين والمجددين في القرن العشرين . تركت أثرها وبصماتها ونحتت اسمها في ذاكرة تاريخ الأدب العربي الغني والمشرق ، وأثرت القصيدة العربية بالقمم من القصائد ، وأثرت (بتشديد الثاء)  في أجيال من الشعراء العرب بعدها.

 

انحدار الشاعرة العائلي ، الأب شاعر وأديب والأم شاعرة والشقيق شاعر والبيت ملتقى للأدباء والكتاب ، كان له أثره البالغ في شاعريتها وثقافتها ورسم مستقبلها الى جانب الموهبة الشخصية الفذة ، مدعومة بارادة المواصلة وتثقيف الذات واتقان اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ، كي تتمكن من قراءة نتاجات مبدعيها بلغاتها لأهمية ذلك للمبدع .

 

امتاز شعر نازك الملائكة بالحزن والشجن الرومانسي متأثرة في ذلك بالمدرسة الرومانسية التي كانت تأثيراتها في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي واضحة في شعر الشعراء العرب ، وهذا ما دفع النقاد الى القول بأنها جددت في الشكل دون المضمون اشارة الى شعرها الحر. لكننا نلمح في ثنايا هذه الرومانسية حساً انسانياً عالياً في التعبير عن معاناة الانسان في هذه الحياة المثقلة بالاضطرابات والخطوب والحروب ، وهو مااضطرت معه الشاعرة الى اعتماد الشكل الكلاسيكي العمودي في التعبير عنه ممزوجاً بالفكر :

 

ما الذي بيننا من البغض ماذا كان سر القتال والأحقادِ

أيها الناقمون جميعاً شرعٌ   في أيدي الخطوبِ الشدادِ

 

كـم  تغنى  بالسـلم  والحـب  مـن  شـاعـر  وفيلسـوفِ

أسفاً ضاعتِ الأغاني ولم تبقَ إلا ضجة القتال العنيفِ

 

هذا الحس الرومانسي المشوب بالانساني هو حس الشاعر المرهف الحزين الشجي المنشغل  بالهم العام الذائب في الذاتي ، وهو ماامتازت به شاعرتنا الكبيرة ، والذي يحتاج الى البحث فيه والكتابة عنه أكثر من الغوص في الشكلياتية الابداعية والأسبقية من غير النظر في المضمون  وما يضطرب فيه من أحاسيس وافكار وتجارب ومعاناة هي أساس العملية الابداعية ومفجراللحظة الشعرية في روحية النص النابعة من ذات المبدع  ونزيفه الداخلي. وهذا لا يعني بالضرورة أن التركيز على الشكلياتية غير مهم في تأريخية الابداع ، فالشكل هو الولادة الطبيعية للمضمون المخلوق من جملة عوامل ذاتية خاصة بالمكونات السيكولوجية للشاعر من موهبة وثقافة وفكر وتربية وبيئة ، وموضوعية متعلقة بالزمان والمكان والمؤثر التاريخي الجغرافي في ما يحيط بالشاعر والنص. كما أن المضمون هو ولادة الشكل في ارتباط عضوي جدلي بين الصورتين ، وعليه فالتركيز على جانب واهمال الثاني هو تشطير للنصية الشعرية. فالشاعر هو بناء الذاتي والموضوعي والشكلي والمضموني. وفي شاعرة مثل نازك الملائكة والزمن الشعري الذي كتبت فيه تكون العلاقة بين الشكل والمضمون مهمة في عملية الخلق الشعري ، وربما لهذا أثر في أنها تراجعت لتعود الى الشكل القديم الكلاسيكي. والأمر في حاجة الى بحث اكاديمي رصين ، كما أن مضمون شعر نازك الملائكة بحاجة الى الدراسة والتحليل والكتابة فيه.

 

هاهنا لا قبابَ لا قوس نصر 

ليس إلا سر الردى الأبدي

وهو المرقد الأبيد لقوم 

لم يرنم مديحهم آدمي

 

حديثنا يا فورة الشر في

أعماق هذي السلالة العمياءِ

عن جنون الطموح يقتات من

ضوء المآقي ويرتوي بالدماءِ

 

هذا الحزن الشفاف العميق هو ما يصبغ نتاج شاعرتنا الكبيرة ، وقصيدتها التجديدية الأولى (الكوليرا) صورة واضحة من الألم والحزن لما حدث من اجتياح وباء الكوليرا قرى مصر في 1947 ، وهي التعبير الأول عن هذا الحس الذي صبغ مضامين شعرها بهذا اللون من المشاعرالذاتية التي تعلقت بالهموم الانسانية عامة ، وهو ما يميز ابداعها.

 

لكن المؤلم والمحزن في رحيلها أنها عانت العوز والمرض والألم الجسدي بعد معاناة الألم الروحي ، وبعد هذا التراث الأدبي الكبير من شعر ونقد ودراسة وتدريس ، فلم تجد العلاج والرعاية في الوطن الأم والأرض التي ولدت فيها ورفعت اسمها بعطائها الفذ وابداعها الخلاق السامي. والأكثر ايلاماً موتها في بلاد غير بلادها وإن لم يكن غريباً ، مثلما الجواهري الكبير والبياتي وبلند الحيدري.

.ويبدو أن قدر المبدعين العراقيين مرسوم في هذا الطريق ، غربة واغتراب واهمال وتهميش وأولو أمر في كل زمان منشغلون بأمورهم في بناء القصور والقباب وأقواس النصر وفي المديح وانتفاخ الأرصدة والبغضاء والمنكر والظلم والطموح غير المشروع والاحقاد والقتال ونشر الشرور وضياع السلم والأغاني كما تشير الشاعرة في أبياتها المذكورة.

 

الأربعاء 27 حزيران 2007