ياأمَ عباس

عبد الستار نورعلي

 

يا أمَ عباسٍ، أويلي!

كم حملتِ من السنينَ وأنتِ تنتظرينَ ميلاداً عسيراً

جاءَ بالطلعانِ في الروحِ،

فقامتْ زفةُ الأفراحِ في البيتِ الكبيرِ ثمانيَ عشرةَ.

واختفى عباسُ والأقرانُ بالآلافِ

لم نسمعْ سوى الهمساتِ دائرةً هنا وهناكَ

علَ أخباراً تجيءُ،

ولا تجيءُ.

 

يا أمَ عباسٍ،

وذاكَ الدربُ طيفٌ بينَ عينيكِ،

وأنتِ على انتظارٍ طرقَ بابٍ:

هو عباسٌ أتى؟ وافرحتا!

أم أنه الحلمُ الطويلُ المستحيلْ؟

 

قد صارَ طرقُ البابِ نبضاً سرهُ مفتاحُ بابِ القلبِ،

وهماً يذبحُ الأملَ القليلَ،

وهزةً تشعلُ نيرانَ الضلوعِِ.

عشرون مرتْ زادها الدهرُ ثمانيةً،

وودتْ أمُ عباسٍ تعمرُ ألفَ عامٍ

خلفَ بابِ الريحِ تنتظرُ البشارةَ

كي تواصلَ رحلةَ التفتيشَ عن وجهٍ يطلُ بآخر النفقِ

ومن خلفِ الزجاجةِ عندَ شباكِ الترقبِ.

 

عشرون عاماً زادها الدهرُ الشديدُ ثمانيه

والجرحُ ينزفُ، لو جبالُ الأرضِ تحملهُ أناختْ

والصخورُ تصدعتْ

لكنَ قامةَ أمِ عباسٍ تشدُ الظهرَ تنتظرُ البشارةَ

خلفَ طرقِ البابِ أو خلفَ الزجاجةِ،

آخرُ النفقِ الفراغُ،

وكلُ رفةِ قادمٍ طيفٌ

لعلَ الطيفَ يطفئُ نارها.

 

يا أمَ عباسٍ،

ومرَ العامُ بعدَ العامِ

لا طيفٌ أتى ابداً،

ولا خبرٌ يجيءُ،

ولا رسولٌ يطفئُ النيرانَ

لا همسٌ، ولاحسٌ، ولا نفَسٌ،

فيا سبحانكَ اللهمَ!

هل نحسبهُ أضحيةَ العيدِ

لسلطانٍ اقامَ السيفَ في الخَلقِ

ولم يرحمْ وحيدَ البيتِ، قلبَ الأمِ

أو نظرةَ عين الوالدِ الولهان،

لا دينَ، ولا ذمةَ، لاشيءَ،

هو المنفردُ الأوحدُ في التاريخِ

صِفرُ القلبِ، جدبُ الروحِ، لايشبههُ منْ مرَ

لا في السندِ، لا في الهندِ، لا يأجوجَ مأجوجَ العماليقَ؟

فيا سبحانكَ اللهمَ،

أنتَ الخالقُ الأعظمُ للخلقِ وللإنسانِ في أحس تقويمٍ،

وباني الكونِ في سبعة أيامٍ وفي أفضلِ تنظيمٍ،

لماذا يا أبانا قد تركتَ البيتَ مذبوحاً بأيدي أخبثِ الخلقِ

وشيطانٍ رجيمٍ؟

ولماذا رحلةُ الهجرةِ  هذي أبداً في نسلِنا

والمذبحه؟

 

قلْ لي لماذا!

 

غفرانكَ اللهمَ !

هذا قلمُ الأقدارِ، حكمتكَ،

وما قالتْ لنا الأسفارُ والكتبُ المقدسةُ

وتاريخُ الطغاةِ الشرِ،

ما حدثنا سيرةُ أبناءِ الشوامخِ والجبالِ الشمِ

والحريةِ الحمراءِ والأفكارِ والأفعالِ

زراعِ الضياءْ.

 

يا أمَ عباسٍ!

عشرون عاماً زادها الدهرُ الثقيلُ ثمانيه،

والريحُ تصفرُ في الزوايا الأربعه،

مابينَ جدرانٍ تداعى وجهها

من كثرةِ الدورانِ والصلواتِ والدعواتِ،

ربُ العالمينَ يُفرجُ الشدةَ

أنْ يكسرَ ذاك القيدَ في منْ طالَ فيهِ القيدُ

أو يفجرَ الأرضَ بمن فيها من السلطانِ والغلمانِ والسجانِ

والعميانِ والعورانِ والعرجانِ

والعائلةِ الموروثةِ الأحقادِ والمذابحِ المنظمه.

 

ياأمَ عباسٍ،

أما كانتْ سجاياهمْ فصولاً من دماءِ الناسِ تجري

في الجهاتِ الأربعه؟

أوَ ما علمتِ بأنَ أحفادَ الذينَ سبوا حسيناً

همْ قضاةُ المحرقه؟

أوَ ما رأيتِ شبابنا في ساحةِ النهضةِ

مقتولينَ بالكاتمِ في الصوتِ،

وبالتيزابِ والتعذيبِ،

مرمينَ فوق حافةِ الطريقِ

والصدرُ ثقوبٌ بالرصاصِ مُشْبَعَه؟

 

يا أمَ عباسٍ،

وهذا ديدنُ القومِ

فهمْ أبناءُ قابيلَ تداعى نسلهمْ

فالذبحُ مفخرةٌ

والنهبُ مفخرةٌ

والسبيُ مفخرةٌ

وهتكُ العِرضِ مفخرةٌ

وكلُ دنيةٍ في الأرضِ مفخرةٌ.

فكيفَ تُرى وفي قبضتهم ذاكَ الشبابُ الغضُ بالآلافِ

عاري الصدرِ

مغلوباً على الأمرِ

منيراً مثلَ بدرِ،

وهُمو مثلُ الضباعِ الكاسره

مثلُ الذئابِ الغادره ؟!

 

ياأمَ عباسٍ،

عشرونَ عاماً زادها الزمنُُ الخؤونُ ثمانيه

والبابُ يحفظُ وجهَكِ ونزيفَ صوتكِ،

تحفظُ الجدرانُ والشُباكُ والفجرُ،

كتابُ اللهِ والصلواتُ والدهرُ.

أيا أماً نزفتِ...نزفتِ في صمتٍ  

وحتى هدكِ العمرُ

ولم يتعبْ بكِ الصبرُ

وذاكَ الأملُ الصخرُ

لأنتِ مثالُنا النورُ

لكِ الفردوسُ مفروشٌ ومعمورُ

وفي أحضانكِ عباسُ مسرورُ

 

 

* أم عباس: هي المرحومة ازمت أم الشهيد عباس علي أصغر أحد الشباب الكرد الفيليين الذين احتجزوا بعد حملة التهجير عام 1980 وا ختفى أثرهم ليظهر اسمه ضمن قوائم الشهداء الذين صفاهم النظام الفاشي الساقط . وقد توفيت في أواخر مايس 2008  وهي تنتظر طلة ابنها عباس لكنها طلتْ عليه.

 

الثلاثاء 10 حزيران 2008