هل الشعب العراقي حقاً شعبٌ واحد؟ عبد الستار نورعلي كنا طوال حياتنا ومن خلال ما تربينا ونشأنا ووعينا عليه وآمنا به وعملنا في اطاره وتأثيراته وايحاءاته نرى العراق وطناً واحداً متماسكاً ورقماً صعباً غير قابل للقسمة، وشعبه متراص متماسك متداخل موحد في الوشائج والمشاعر والأهداف الوطنية والعمل. ومابرحت أحاسيسنا وعواطفنا وكتاباتنا كعراقيين وطنيين حريصين تسير في هذا الاتجاه ونحن نتجاور ونتصادق ونتزاوج ونتحدث ونتحاور ونعبّر ونكتب نصوصاً شعرية ونثرية، نتغزل فيها ونفتخر بالشعب العراقي الواحد الموحد وتاريخه ونضاله وحضارته الضاربة في القدم، وندافع عنه ضد كل عدوان أو تهديد أو صراع أو قدح أوطعن. وكذلك نعبّر عن معاناته وما تعرض له من ظلم واضطهاد وقهر منْ غير الالتفات الى قومية أو طائفة أو دينٍ أو عشيرةٍ أو منطقة.
فهل علينا اليوم ونحن نرى ما يجري على الأرض أن نرمي كل ذلك خلف ظهور عواطفنا وسطور كتاباتنا ووحي قناعاتنا؟
وهل علينا أن نختزل أنفسنا في زاوية حادة، ونحشر قلوبنا في جيب صغير من جيوب العراق المتعددة وفق خارطة الملوك والطوائف والقبائل والعشائر؟
هل علينا أن نغيِّر قناعاتنا ونستدير 360 درجة؟
في بلغاريا في ربيع 1992 بعد هجرتي بأشهر كتبتُ وأنا في قرية سيميانوفا وعلى سفح جبل فيتوشا المطل على صوفيا متضوَّراً شوقاً وحنيناً:
ايامطرَ الربيع، اغسلْ وجهَ العراقْ، ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعد قطره. تباركَ اسمُ العراقْ! تباركَ منْ سالَ دمهُ على جذعِ نخلةٍ في الجنوبْ! تباركَ منْ طارَ جذعهُ شظايا على قمةٍ في الجبالْ! تباركَ كلُّ مَنْ صاحَ: ياعراقْ ........!
فهل عليَّ اليوم أن أغيِّر في القصيدة فأقولَ: ايامطرَ الربيع، اغسلْ وجوهَ العراقْ!
فقد أضحى العراق بوجوه وألوان وأجزاء ومناطق وعشائر وقوى عديدة مختلفة متصارعة بحدِّ الاختلاف والبغض والحقد الدفين والدم الذي سال أنهاراً في الشوارع والأزقة. وكل هذا بعد طوفان الاحتلال وزلزال التغيير واعتلاء أحزاب الدين والطوائف والمدارس الفقهية والمذهبية والعشائر سدة الحكم والامساك بالسلطة. لقد انقلب شعبُ العراق شعوباً أخرى لم نعرفها ولم نعهدها. فهل كنا مخدوعين، أو غافلين، أو متغافلين؟ المناطق أصبحت مرسومة وفق سيفِ الطائفة والمذهب والقومية والدين! صراعات بينها بلهيب النار والموت والدمار والتهجير القسري والطوعي. كلُّ طرفٍ معبّأ وعلى أهبة الاستعداد ويده على الزناد وكأنه في حرب مُنتظرة. ووسط كل ذلك قوى وأحزاب تدعي تمثيل هذه الفئة أوتلك الطائفة وهذا الدين أو ذاك! ومعها سارت رياح الناس حيث يسيرون.
ومعها تبينت حقيقة مرعبة رغم كل ماقيل ويقال من معسول الكلام وجميل التحليل والتأويل والتعليل وضرب المثل المضيء الوهمي بالتاريخ القريب والبعيد. انكشفت حقيقة بقيت غاطسة مُخفية رأسها تحت سطح اليد الحديدية التي كانت تمسك بمقاليد الحكم، وهي أن اختلاف الأمة ليست رحمة دائماً.
برزت الصورة المتسترة وراء ستار الوحدة الوطنية والاجتماعية والمشاعرية، وهي صورة متنوعة الألوان والأطياف مؤطرة بإطار حديدي مُسنّن صاحبه بيد من سيف ويدٍ من نار. فمن يخرج عن الصورة والإطار والطاعة طارت رقبته أو أحترقَ في النار. لذا ظلت مطيعة ساكنة صامتة عن حقوقها واستحقاقاتها عن خوف، أو من تصور هول ما سيحدثه الانفجار المدمر للجميع إذا وقع.
وحين كُسر الاطار مِزَقاً وتحطمت اللوحة بعد الاحتلال انطلقت الأطيافُ والألوانُ الى فضاء فسيح دون إطار أو حدود أو خوف من اليد الحديدة الضاربة. وعليه تصادمت وهي في انطلاقها وفي خضم حريتها الفوضوية اللامحدودة. كلّ واحد منها يريد أن يكون صاحب الإطار. فبرزت الكراهية الكامنة والحقد الدفين قومياً وطائفياً ودينياً وايديولوجياً بين هذا الألوان والأطياف العراقية التي كانت تُسمى أصيلة مترابطة متحابة متضامنة مثل البنيان المرصوص!! وما عشناها وشاهدناه من المذابح وأنهار الدماء شاهد حيّ لا يقبل التأويل واللف والدوران أو الالتفاف على الحقيقة الواقعية بجميل التعليل وحلو الكلام المزوّق والمصاغ بالوهم والكذب على النفس. وإن هدأ كلُّ ذلك الآن ظاهرياً فهو في باطن البركان متخفٍ يتحين الفرص، وعند اول شرارة سيتفجر طاغياً.
وعلى أساس هذا الاختلاف والتلوين تأسست المحاصصة التي بعد مسيرة ما يقرب من ستة اعوام يقولون أنها أثبتت فشلها، وأظهرت أنها جلابة للكوارث وخالقة للمهالك في مجتمع متنوع عانى الكثير من الاضطهاد والتهميش والاقصاء لطوائف دون غيرها. فواجهت معارضة شديدة حتى من مؤدلجيها ومروجيها ومؤسسيها والعاملين تحت لوائها. لكنها في رأينا وبحسب قراءة الواقع العراقي الموضوعي والمعاش والقوى الماسكة بالساحة وسدة السلطة والقرار وما في مخزون الفرد العراقي من انتماء وقناعات ومن تاريخ من القهر والاضطهاد وما نراه ونسمعه من عداءٍ وكراهية متبادلة وعلى مستوى الناس العاديين، لا على مستوى الإعلام والتمنيات الواهمة الموهومة، فإنَّ ما يقال وما يرفع من شعارات وتصريحات هو من باب المجاملة وتهدئة النفوس والبحث عن موقع سياسي متقدم وتبرئة النفس من شوائب وعار ما يجري.
وفي انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي جرت في الحادي والثلاثين من كانون الثاني 2009 ونتائجها التي اعلنت يوم 5 شباط 2009 كان فوز القوى الدينية والطائفية والشوفينية والمناطقية مشهوداً وفي الصدارة، وكلٌّ بحسب محافظته ومنطقته طائفياً وقومياً. فقوى وأحزاب الجنوب الشيعي نفسها فازت بالنسب العليا، فهل فازت احداها في محافظات غرب العراق وشماله، كالأنبار وصلاح الدين والموصل؟ بالمقابل لننظر في القوى والأحزاب التي تصدرت الفوز في تلك المحافظات، فهل فازت إحداها في الجنوب؟
وكل تلك القوى والأحزاب، هل ضمت أطيافاً متنوعة وبشكل بارز وكبير، وإن ادعى بعضها هذا ظاهرياً للتجميل والدعاية الانتخابية؟
ثم لننظرْ في الأحزاب والقوى المدنية والعلمانية الوطنية العراقية غير الطائفية وغير القومية وغير الدينية، فكم حصدت من الأصوات؟ وما هو موقعها من الشارع السياسي والعمق والتأثير الجماهيري والحكم القادم من خلال ملاحظة ودراسة نتائج انتخابات مجالس المحافظات؟ بالطبع لا شيء !!!
القوى والأحزاب الطائفية والقومية والمناطقية التي تمثل التمزق والتقسيم الشعبي والوطني هي التي فازت مرة أخرى رغم انحسار بعضها جماهيرياً، لكن نُسخها ووجوهها الأخرى تصدرت.
فهل هذا هو العراق الواحد والشعب الموحد؟
وهل تمثيل الأديان والطوائف الصغيرة على الأساس الديني والطائفي في المجالس وبالنسب المعلنة هو وجه العراق الواحد والشعب الموحد؟
رغم كل ماقيل ويقال من حلو الكلام وبهرجة المقال عن نجاح وشفافية هذه الانتخابات وابتعاد الرأي العام عن مبدأ المحاصصة الطائفية من خلال نتائجها وفوز بعض القوى التي تدعي الرفض لهذا المبدأ والعمل على أساس وطني، إلا أنّ النتائج أبرزت بجلاء وثانيةً عن تأصيلٍٍ للطائفية والمذهبية والعصبية الشوفينية المناطقية والعشائرية.
أما القوى والأحزاب التاريخية الوطنية التي كانت وعاءاً للعراق الواحد والشعب الموحد فإنها في انحسار دائم. وقد ظهر هذا جلياً لا لبس فيه من نتائج الانتخابات المعبرة عن توجهات الرأي العام الشعبي الجماهيري، فلا يزال التخلف الحضاري والثقافي والفكري والوعي الغائب سمة طاغية على المجتمع العراقي.
فحين تتسلم السلطة القوى والأحزاب الدينية والطائفية والقومية الشوفينية فإن التخلف الحضاري والفقر والجهل وغياب الوعي تزداد وتنتشر وسط المجتمع. وعليها فاقرأ السلام على البلد الذي تحكمه وعلى أمنه الاجتماعي وتماسكه. والعراق بعد مسيرة الأعوام الستة الماضية خير مثال.بحيث بدأنا نتساءل وبجدية وخوف: هل العراق حقاً بلد واحد، وشعبه متراص موحّد؟
عبد الستار نورعلي 5 شباط 2009
|