المرأة الفيلية، شاهدات محاكمة العصر نموذجاً عبد الستار نورعلي
في
سير المحاكمة الجارية هذه الأيام للمتهمين بتهجير وقتل الكرد الفيليين في
العراق ايام حملة التهجير الكبرى قبل وأثناء الحرب العراقية الايرانية التي
اندلعت سنة 1980 واستمرت لمدة ثماني سنوات، وذلك بحجة التبعية الايرانية
الزائفة الواهية شاهد المتابعُ لمجرياتها واستمع الى مجموعةٍ من النساء
الفيليات الشاهدات اللواتي عاصرْنَ وعشُنَ أحداث التهجير والقتل تلك وتعرضن
للمعاناة والمصاعب والمصائب ومنها فقدان الزوج والأخ وأبناء الأخ والأخت
والعم، وحتى الفتيات أيضاً في أبشع عملية وحشية همجية جرت في تاريخ الشعوب.
كان بينهن السياسية
وعضو مجلس النواب (السيدة سامية عزيز محمد)، وبينهن خريجة الجامعة والموظفة
وربة البيت. لقد كنَّ النموذج الشامل والمثل المشرق المُصغّر الجامع للمرأة
الكردية الفيلية، والذي يدعو الى الفخر والاعتزاز ورفع الراس.
هذه هي المرأة
الكردية الفيلية، تتصف بالشجاعة والجرأة في قول الحق والصدق والنضال والتضحية
والثبات على المبدأ، وقوة الشخصية، ومنطق الحديث المفحم، والاصرار على
المطالبة بالحقوق واستعادة ما سُلب منها، والوقوف بشموخ وكبرياء وثقة عالية
بالنفس دون وجل أو ريح من الخوف والتردد والخجل في أصعب الظروف القاسية، وما
وقوفهن امام القاضي متسلحات بكل تلك الصفات إلا دليل على ما نقول.
إضافة إلى تحملها
الصعاب والنوائب دون أن تضعف أو تنهار أو تتخاذل، بل تخرج منها كالعنقاء
أصلبَ عوداً وأقوى عزيمة على مواصلة الحياة والبناء من جديد وخلق عالمٍ مشرق
ومستقبل أزهر لها ولأبنائها ومَنْ حولها.
وهل هناك تجربة أشد
قسوةً مما تعرضن له مع عوائلهن أثناء حملة التهجير؟
وهل هناك أروع مثلٍ
مما يضربنه في المقاومة والجلد والتحمل وبناء الحياة من جديد بعد تلك النكبات
والعواصف العاتية؟!
فما رأيناه وسمعناه
في شهاداتهن أمام القاضي وأصواتهن الجريئة التي ذكرت كل التفاصيل المتعلقة
بالقضية وما عانينه وشاهدنه وعشنه، وبشكل مرتب مثير يشدّ السامع والمتابع
ويثير في نفسه كوامن الغضب والحنق والثورة على المجرمين الذين أقدموا على
فعلتهم الشنيعة البربرية الهمجية دون وازع ولا رادع من ضمير أو قانون أو خلق
انساني تجردوا منه ليتحولوا وحوشاً ضاريةً لا رائحة انسانية في نفوسهم.
كنّ صلباتٍ شامخاتٍ
وقدّمنَ من الوثائق ومن رواية للأحداث التي مرت بهن وبعوائلهن ما أخرس
المتهمين وألجم ألسنتهم وأثار في نفوسهم الخوف. حتى القاضي رؤوف عبد الرحمن
لم يتمالك نفسه مما قدمته إحدى الشاهدات (أم حيدر) من وثائق ادانة، ومنها
قرار باصدار أحكام اعدام قرقوشية لاقانونية جائرة دون اجراء محاكمة أصولية
وشهادة شهود ودلائل اتهام وحضور محامين، وذلك لمئة وأربعة وعشرين من الشبان
الفيليين الذين احتجزهم النظام الفاشي الدموي اثناء حملة التهجير وبينهم
شابات، وكل ذلك خلال دقائق ليتم تنفيذ الحكم فيهم دون أية لائحة اتهام ولا
ذنب اقترفوه في جريمة من جرائم الابادة البشرية. وقد اختفت جثثهم ولم يتم
العثور عليها الى اليوم. علماً بأن هذه وجبة واحدة من آلاف الشباب الفيلي
الذي تم حجزهم في تلك الحملة المشؤومة الشنيعة الوحشية.
إن الشاهدات العزيزات
المشار اليهن مثال حيٌّ ساطع ومأثرة مشرقة للمرأة الفيلية ستذكرها الأجيال،
ومفخرة تبعث على الاعتزاز والتبجيل، ورفعة رأس شامخة.
هذه هي المرأة
الفيلية، ولا غرابة، فهن حفيدات المناضلة قدم خير وبنات اللواتي كنَّ مثالاً
للتضحية من أجل عوائلهن وأبنائهن وتحملن الكثير لبناء أسرة متماسكة قوية
وأبناء انقياء مخلصين أوفياء يبنون لأنفسهم ولمجتمعهم مستقبلاً زاهراً في كل
مجالات الحياة والعمل. فقدمنَ للمجتمع العراقي والكردي أفراداً بناةً أوفياء
حريصين في كل مجال من مجالات الحياة والعمل. كنَ يقتطعن اللقمة من أفواههن
لأبنائهن، ويحرمن أنفسهن من كل شيء لأجلهم.
كم عانى الكثير منهنَ
ضيق ذات اليد وشظف العيش دون أن يبدين أيَّ تذمر أو شكوى كي لا يثقلن على
أبنائهن وأزواجهن ولا يبعثون الألم الضيق في نفوسهم.
لقد قدمنَ المناضلين
من أبناء وأخوان وأزواج وبنات في طريق النضال الوطني، وكنَ الظهير المساند
لهم. تنقلن بين السجون لزيارة ابن أو أخ أو زوج، في بغداد والمحافظات وسجن
نقرة السلمان الرهيب. وحتى أيام حجز الشباب أثناء حملة التهجير كنَ يذهبن
لزيارة الشباب من أقاربهن أو اخوانهن في سجن ابو غريب وفي سجن نقرة السلمان
حتى تم إخفاؤهم واختفاؤهم النهائي دون أثر لحد اليوم.
هذه هي المرأة
الكردية الفيلية رمزاً للنضال والتضحية واشراق ما حولها وتحمل الصعاب والمشاق
والخروج من تحت الرماد كالعنقاء لتحلق من جديد بانيةً ورافعةً هامتها الى
أعلى القمم شامخة الرأس عالية القامة، صلبة القلب، قوية الارادة والعزيمة
التي لا تلين ولا تسكن ولا تتراجع.
فتحيةً لسامية عزيز
محمد التي فقدت أخاها في الحجز شهيداً، وأبويها وأختها في ديار الغربة، وابن
أختها في بغداد على يد الارهاب الوحشي الأهوج.
تحيةً لوداد علي حيدر
التي فقدت أخاها الشاب في الحجز شهيداً. وأخاها الأكبر الذي سممته السلطة
الفاشية أثناء حجزه قبل التسفير ليموت ممزق الأمعاء في طهران.
تحية لآمنة أم حيدر
التي فقدت أربعة أشقاء وثمانية أولاد عمومة شهداء في الحجز.
تحية لليلى عبد
الرحمن سلمان التي فقدت زوجها وأربعة من أشقائه وخمسة من اولاد عمه بينهم
واحد معاق أصم ابكم أبله شهداء في الحجز.
تحية إلى أحلام سيف
الله كرم التي فقدت ثلاثة من أشقائها, البطلة التي استطاعت بشهادتها أن تحدثَ
مشادة بين وطبان ابراهيم أخي صدام وطارق عزيز، حيث لعن وطبان طارق عزيز
واتهمه بأنه سبب خراب العراق وتبادل الاثنان البصاق في وجه بعضهما، وحاول
وطبان الهجوم على عزيز لضربه فأبعده رجال أمن المحكمة. هؤلاء هم قادة العراق
السابقون، فتصوّروا !!
تحية لفريال حسين
آغالي التي فقدت والدها وخمسة من أعمامها وزوج أختها.
وتحية لكل مَنْ سيشهد
لاحقاً من نسائنا البطلات الكبيرات اللواتي بيّضنَ وجوه الفيليين، وأثبتنَ أن
المرأة الفيلية لا تقلُّ عن الرجل صلابةً وقوةً وعنفواناً وعملاً، وأنها ظهير
قويٌ يشدُّ أزره في الملمات والكوارث والمصاعب.
وكلّ أولئك الشهداء
المذكورين وغيرهم من شباب الكرد الفيلي قد اختفى أثرهم من ايام الحجز في حملة
التهجير في اوائل الثمانينات من القرن المنصرم. وقد قتلوا عمداً دون ذنب ولا
جريرة من جرم مشهود على يد أزلام النظام الفاشي الساقط.
وتحيةً للمرأة
الفيلية عامةً وهي المناضلة الصابرة المحتسبة العالية المقام. |