محاكمة
المتهمين بتهجير وقتل الفيليين هي محاكمة القرن
عبد الستار نورعلي
محاكمات نورنبرغ عقب انتهاء
الحرب العالمية الثانية 1945 والتي جرت لمحاكمة الضباط النازيين على جرائم
الابادة الجماعية ضد اليهود وغيرهم اعتبرت محاكمات العصر، أي محاكمات القرن
العشرين، وذلك لأنها حاكمت مجرمي الحرب على أفعالهم الوحشية وجرائمهم البشعة
ضد الانسانية، وقيامهم بعمليات قتل وإبادة جماعية بأساليب رهيبة منها الحرق
بغرف الغاز لآلاف مؤلفة من المدنيين الأبرياء دون ذنب ارتكبوه.
وقد عاصرنا ايضاً تشكيل المحكمة الدولية في لاهاي لمحاكمة مجرمي الحرب في
يوغسلافيا السابقة خلال حرب البلقان، ومحاكمة تايلور رئيس رواندا على جرائمه
ضد الانسانية، وأخيراً مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير لجرائمه
الوحشية اللاانسانية في دارفور.
وبعد سقوط النظام الدكتاتوري الفاشي في العراق عام 2003 تشكلت المحكمة
الجنائية العليا لمحاكمة رجال النظام السابق على جرائمهم ضد الشعب العراقي
بمختلف طوائفه وألوانه، ومنها جريمة الدجيل والأنفال وحلبجة والانتفاضة
الشعبانية واعدام التجار، وجريمة تهجير وقتل الكرد الفيليين.
وقد تابعنا العديد من المحاكمات التي جرت لقادة النظام الساقط على جرائمهم،
وآخرها المحاكمة التي تجري هذه الأيام للمتهمين بتهجير وقتل الآلاف من الكرد
الفيليينن اضافة الى القيام بمصادرة أملاكهم وأموالهم ووثائقهم الرسمية
القانونية العراقية التي تثبت عراقيتهم وذلك في محاولة خبيثة لاقانونية
لإخفاء كونهم عراقيين والصاق التبعية الايرانية بهم لتبرير جريمتهم هذه التي
هي من الجرائم ضد الانسانية دون ادنى شك.
لقد شاهدنا واستمعنا الى شهادة عدد من الشهود في هذه القضية من نساء ورجال
تعرضوا للتهجير القسري هم وعوائلهم ولمصادرة الأملاك والأموال والوثائق
الرسمية وحتى أثاث البيوت، مع حجز شبابهم بالآلاف. وسمعنا ماعانوه ولا قوه من
ظلم واجحاف وتوقيف وسوء معاملة لأشهر قبل القائهم على الحدود الايرانية
بطريقة فاشية وحشية تفتقر الى أبسط القواعد الانسانية والقانونية بحيث فاقت
أعمال النازيين والفاشيين، وسمعنا كم عانوا في طريقهم نحو الحدود الايرانية
بين الجبال ووسط الألغام والقصف وهطول الأمطار وهبوب الرياح والعواصف أثناء
الحرب العراقية الايرانية، وكيف مشوا عراة حفاة جائعين لأيام مع الخوف والرعب
في الطريق، وتعرضهم لعمليات السلب والنهب والاعتداء والاغتصاب من قطاع طرق
ثبت من شهادة الشهود أنه كان بينهم وبين الأمن العراقي الذي قام بتنفيذ
عمليات التهجير اتصال واتفاق حيث كانت قوافل المهجرين البؤساء المظلومين تسلم
اليهم يداً بيد من قبل السلطات العراقية مع اخبارهم بأن هؤلاء المهجرين هم
ملك صرف لهم يفعلون بهم مايشاؤون، فهم وأموالهم وأعراضهم ملك لقطاع الطرق
المجرمين اولئك.
ومع الأسف الشديد وما يغص في النفس ويؤلم ويثير الغضب والاستهجان والاحتقار
أنّ هؤلاء اللصوص والمجرمين وشذاذ الآفاق كانوا من جحوش الكرد المتعاونين مع
السلطة الفاشية، وهم من نفس أرومة المهجرين الكردية مع الأسف. والآن هم
منعمون مرفهون في ظل ما سمي بالعفو عما سلف!
إنّ ما تظهره مجريات هذه المحاكمة من جرائم بشعة وحشية وتجاوز واستهتار
بالقوانين التي سنها النظام نفسه، وهو ما لم تألفه الدول المتحضرة التي تحترم
قوانينها وحتى الأنظمة الديكتاتورية التي لا تجرأ على القيام بمثل هذه
الأفعال المشينة الإجرامية ضد شعوبها، هو مايجعلنا دون تردد أن نعتبرها
محاكمة العصر والقرن الحادي والعشرين.
إنّ نوعية الجرائم واحتقار القوانين وتجاوز كل القيم الانسانية التي كشفتها
هذه المحاكمة قد فاقت كل أنواع الجرائم والقوانين والتصورات التي عرفتها
البشرية حتى في أحلك عصورها ظلاماً وتاريخها تخلفاً وأبشع أنظمتها التي حكمت
بعض البلدان.
وإلا كيف ننظر الى عملية التهجير والقتل والابادة هذه بطريقة همجية لا
انسانية؟
ثم كيف ننظر الى حجز الألوف من الشباب دون ذنب ارتكبوه وتغييبهم في المعتقلات
الجماعية دون أثر حتى اليوم.؟
وماذا نعتبر صدور احكام بالاعدام للعشرات منهم بمحاكم صورية وخلال دقائق
وبضمنهم فتيات بعمر الزهور من غير أصول قانونية من توجيه تهمة وحضور محامٍ
وسماع شهود ودفاع ودون توجيه تهمة؟!
وكيف نفسّرُ عملية حجز نساء وأطفال وشيوخ ومرضى وحوامل ولدنْ في المعتقلات
ولشهور طويلة وسط البرد والجوع والمرض؟
وما تقول البشرية المدنية المتحضرة في استخدام آلاف من الشباب الفيلي حقلاً
لتجارب أسلحة كيمياوية؟
وماتقول القوانين الانسانية في تفجير الألغام أمام الجيش العراقي بأجساد آلاف
من الشباب الفيلي المحتجز حين أمروهم بالمشي عليها لتعبيد الطريق أمام الجيش
العراقي في مواجهته للجيش الايراني؟!
وبمَ نفسّرُ اغتصاب الصبايا البكر على أيدي العصابات المتعاونة مع السلطة
الفاشية؟!
إن العمليات الاجرامية المذكورة جرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة بشرية
وتطهير عرقي، ووحشيتها المفرطة في الهمجية تجعل محاكمة مرتكبيها هي محاكمة
القرن الواحد والعشرين بحق.
لكن مما يؤسف له ويؤلم الضحايا والمكوّن العراقي الفيلي هذا التجاهل الاعلامي
من وسائل الاعلام العراقية وفضائياتها وخاصة الرسمية في عرض هذه المحاكمة
ليرى ويشهد ويسمع الرأي العام العالمي ما جرى للكرد الفيليين وما قام به
النظام الفاشي الساقط من جرائم بشعة في حق شعبه، وليعلم كلُّ طاغٍ ومجرم
ومضطهد لشعبه أن يوم حسابه قادم لا ريب، لكي يكفَّ يده عن ظلم شعبه، ولتكون
هذه المحاكمات مثلاً لكل جبار عنيد، وباغٍ شديد.
وقد قال أبو القاسم الشابي وصدقَ:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة فلا بـدَّ أنْ يسـتجيبَ القدرْ
عبد الستار نورعلي
الثلاثاء 9 آذار 2009
Back
|