لا ثقة بأمريكا، أكراد العراق نموذجاً

عبد الستار نورعلي

 

 

تتميّز السياسة الأمريكية مثل غيرها من دول العالم وخاصة الكبرى بأن محركها وموجه استراتيجياتها وتحركاتها التكتيكية هي مصالحها. وتاريخها منذ الحرب الباردة ولحد اليوم، وهي القوة الكونية العظمى الوحيدة، خير شاهد ودليل. فليس لها أصدقاء وحلفاء دائمون، فهي على استعداد للتخلي عنهم إذا اقتضت مصالحها. وشاه ايران ونورييغا من الأمثلة الحية.

 

كما ليس لها في الوقت نفسه أعداء دائمون. وليبيا والقذافي شاهد ومثال، فكيف تحول عدوها اللدود وصاحب اسلحة الدمار الشامل والمنتهك لحقوق الانسان والمساند للإرهاب الدولي والنظام اللاديمقراطي إلى دولة تقيم معها العلاقات الطيبة وتخرجها من دائرة الدول المارقة المغضوب عليها الى دولة تقوم بتحسين العلاقات معها والقيام بالزيارات الرسمية لمسؤولين أمريكيين كبار، واجراء اتصالات مع نجل القذافي ووارثه في الحكم سيف الاسلام.

 

فما الذي حدث لتتغير سياستها 360 درجة من العداء والمحاربة والحصار والعمل على الاسقاط الى الصداقة وغض الطرف والسكوت عما يجري داخل ليبيا من اضطهاد لمعارضي النظام؟

 

فهل تحوّل نظام القذافي من نظام دكتاتوري ارهابي إلى نظام ديمقراطي تعددي مدني حديث متحضر تتداول السلطة فيه عن طريق صناديق الاقتراع بطريقة سلمية، وتُحفظ فيه حقوق الانسان، وينعم الناس فيه بالرفاهية والحريات؟!

 

والقصة معروفة وواضحة وجرت في العيان لا خلف الكواليس، حرّكتها المصالح والسياسات المكيافيلية والمواقف المتغيرة المنقلبة على عقبيها من كلا الطرفين، وكل ذلك بسبب تغير الأهداف والاستراتيجيات. وفي خضمها نُسيت مصالح الشعب الليبي ومعاناته والديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان التي تعمل امريكا الملاك على نشرها في العالم ، واصبحت في خبر كان!

 

إن الثقة المفرطة بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة وسياسة، ووضع كامل الأوراق في سلتها خطأ جسيم يدلّ على قلة وعي وادراك وفهم لما يحرّك هذه الدولة العظمى رمز الرأسمالية المتوحشة. والقضية الفلسطينية لا تزال الشاهد المرئي الحي والمعاش يومياً، فلا تزال بعض القوى الفلسطينية التي وضعت قضيتها في يد أمريكا بالكامل تدور حول نفسها وحول ذات المحور في دوامة لانهاية لها لا في الأفق القريب ولا في البعيد.

 

كما أنّ حركة وتاريخ العلاقة بين أمريكا والقضية الكردية في العراق شاهد آخر على أن مصالحها واستراتيجياتها تأتي بالدرجة الأولى والأخيرة، وهي المحرك الفعلي لعلاقاتها الدولية وقضايا الشعوب التي تبدي الاهتمام الكاذب بها. ونتذكر في هذا المجال ما الذي فعلته بقضية الثورة الكردية في العراق أيام الزعيم الخالد المرحوم الملا مصطفى البارزاني بعد اندلاع القتال بين الحكومة العراقية والأكراد عام 1974 وبعد بيان 11 آذار 1970 بالاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، وذلك في أعقاب اتفاقية الجزائر بين العراق وايران أثناء مؤتمر عدم الانحياز في السادس من آذار 1975، والتي وقعها شاه ايران وصدام حسين. وكيف أن أمريكا وايران سحبتا يديهما عن الثورة الكردية لتنهار وتلقي السلاح خلال ساعات، ويلتجئ البارزاني الى ايران مع قادة الثورة.

 

بقيت هذه غصة في نفوس الكرد وموقفاً من امريكا كنا نتابعه في تصريحات الرئيس مسعود البارزاني الناقدة لأمريكا والرافضة لسياستها تجاه الحركة الكردية، فقد كان الرجل غير واثق بها، وقد تجلى ذلك حتى في علاقته معها بعد الاحتلال والقضاء على نظام صدام حسين. فمن خلال تجربته التاريخية معها ومع المرحوم والده قائد الثورة أدرك موقفها الحقيقي غير الموثوق به والذي لايمكن الركون اليه والاعتماد عليه، وكيف تتغير سياساتها وتتخلى في لحظة عن مواقفها حتى مع حلفائها. وهذا ما نلمسه كذلك في مواقف وتصريحات السياسي الكردي العريق ورفيق درب مصطفى البارزاني الخالد الدكتور محمود عثمان من الولايات المتحدة الأمريكية. فهو من أشدِّ القادة والسياسيين الكرد انتقاداً وهجوماً على السياسات الأمريكية تجاه القضية الكردية خاصة والعراقية عامة، وذلك بحكم فهمه الدقيق لهذه السياسات والمبني على تجربته الميدانية التاريخية معها.

 

إنّ ما يؤكد عدم الثقة بأمريكا ومواقفها والركون الى وعودها واتفاقياتها هي تصريحات نجيرفان البارزاني في شباط الماضي وتصريحات الرئيس مسعود البارزاني الأخيرة حول الموقف الأمريكي من الكرد في العراق بعد الاحتلال. فقد صرح نجيرفان بأن الكرد يشعرون بأنّ أمريكا قد تخلت عنهم، وأما الرئيس مسعود فقد صرح مؤخراً بأن أمريكا لا تمد يد المساعدة للأكراد فهي تساعد وسط وجنوب العراق، وأن أقليم كوردستان كان قائماً قبل مجيء الأمريكان وسيبقى بعد رحيلهم. وفي هذه اللهجة نلمس عدم رضىً وخيبة أمل بأمريكا ووعودها للكرد.

 

لقد كانت أمريكا تبحث عن منفذ لتغزو العراق من خلاله بعد أن رفضت الأقطار العربية وتركيا فتح حدودها وأجوائها أمام الجيش الأمريكي، طبعاً عدا الكويت. ففتح الكرد أراضيهم وأجواءهم لدعم المشروع الأمريكي في احتلال العراق والقضاء على نظام صدام حسين.

 

كما أن المتسرب أن أمريكا وعدت الكرد خيراً في حل قضية كركوك وفق منظور الكرد السياسي والتاريخي، مما أبهجهم ومنحهم أملاً بأن امريكا قادمة للدفاع عنهم وحل قضاياهم المستعصية مع حكومات المنطقة. لكنها بعد ذلك تخلت عن وعدها لتترك القضية الى اتفاق بين العراقيين أنفسهم، كما تركت متابعته وحله الى الأمم المتحدة، وهو ما تسبب في حدوث أزمة وصراع بين الحكومة العراقية المركزية واقليم كوردستان العراق، يُخشى أن تؤدي الى عواقب وخيمة وخطرة على العراق والمنطقة. وفي هذا السياق لم تتدخل أمريكا بين الطرفين، ولا عملت على تنفيذ وعودها للكرد.

 

إن التجارب في العالم أثبتت أنّ الثقة بأمريكا والركون الى سياساتها والأمل بوعودها ومساعداتها الخالصة هي من باب الوهم المحض، والسذاجة السياسية، والأمل الزائف الذي يوقع أصحابه في فخ لن ينجوا منه فيصيبهم بخيبة أمل وربما بهلاك.

 

والغريب أن الكثيرين من السياسيين والباحثين والكتاب، ومن اليساريين مع الأسف، أخذوا يلهجون باسم أمريكا المخلّصة والمنقذة وبانية الديمقراطية المدافعة عن حقوق الانسان والمستضعفين، مشيدين بما قامت به في العراق من تخليص الشعب من النظام الدكتاتوري العاتي، لا هجين باسمها مغنين بأفعالها بشكل غير مسبوق ومثير للاستغراب، كيف تحوّل اليسار يميناً!

 

إنّ أمريكا كما يقولون هم ليست جمعية خيرية تقدم المساعدات الى الشعوب والدول دون مقابل، وأن مصالحها هي التي تحركها، وعليه إذا التقت مصالحنا بمصالحها فلا مانع من الاتفاق معها ووضع اليد في يدها. لكنهم نسوا أو تناسوا أنها دولة عظمى، وأنها تتحرك مع الضعيف بمكر واستعلاء وتصغير. وحالما تؤمن مصالحها أو تتعارض مع مصالح الآخرين فإنها تضرب بكل اتفاقياتها ووعودها ومساعداتها عرض الحائط، وتترك حلفاءها ومؤيديها والشعوب لمصيرهم. والتاريخ خير شاهد.

 

 

عبد الستار نورعلي

15 مارس 2009 

 

Back