قراءة في (عالمٌ... هي موجتي)

للشاعر علي عصام الربيعي

 

عبد الستار نورعلي

 

 

 في زحمة ما يُنشر من نصوص شعرية مما يُسمى بقصيدة النثر وبتضخم  لدرجة التخمة النشرية المَرَضية نلتقي بالقليل من النصوص التي تأسرنا بأجوائها الشعرية وبسلاسة وانجذاب وحبٍّ منْ أول نظرة، وبدهشة معبأة بالذوبان في فضاءاتها المثيرة للتلقي الجميل والمؤثرة في الأحاسيس والمخيلة، فنكتشف أنّ خلفها موهبةً أبدعت وشاعرية خلقت وقدرةً على السير بثبات في عالم الشعر الواسع إنْ توفرت الإرادة المصقولة بالشروط الثقافية والأدبية والفنية المفترض توفرها فيمن يرى نفسه شاعراً مصراً على ولوج هذا العالم السحري الواسع الميدان.

 

من هذه القصائد التي أتيحت لنا فرصة قراءتها وعلى موقع النور الألكتروني على شبكة النت بتاريخ الأول من مايس 2009 قصيدة الشاعر العراقي الشاب علي عصام الربيعي الموسومة (عالمٌ... هي موجتي).

 

وللحقيقة عليَّ الاقرار بأنّه لم يسبق لي أنْ قرأت نصاً للشاعر علي الربيعي ، لكنني شعرتُ بهزة شعورية أسرتني فاثارت انتباهي منْ أول قراءة للقصيدة والدخول في فضائها شكلاً ومضموناً ولأكثر من قراءة، مما أثار دهشتي واهتمامي فأمتعنتني قارئاً متلقياً أولاً ومهتماً بالشعر ثانياً. وهو الذي دفعني لأخطَّ تعليقي عليها في صفحتها ومنها مايلي:

 

"ما دام العراق زاخراً بشبابه المتدفق حماسةً وثقافة وأدباً يبقى مفرخاً للشعراء وكنزاً للحرف المشع بنور الروح المتألقة بوجع التاريخ. والتجديد في الشعر جاء من العراق قديماً وحديثاً، وسيظل فيه الشعراء بعدد نخيله.

قصيدتُك الجميلة المتوشحة بالنثر مركزُ اهتمام ذائقة المتلقي الخبير بفن القول، استخدامك الموفق في الصور المثيرة للدهشة والمعتمدة على اقتباس مجازات وتشبيهات من صورة الى صورة أخرى عملية شعرية تتسم بالحداثة وهو ما اسماها البعض بالمجاز المقلوب

( عن ظهر جرح ) (لدي من الغبار ..ما يؤرخ لابتعادك)..."

 

إنّ أولى مسلمات الابداع في قصيدة النثر هو الخروج على المألوف الشعري الشائع المتوارث من التشبيهات والمجازات والصور التقليدية والمضامين التي ظلت تطوّقُ القصيدة العربية بظلالها وقواعدها المتوارثة، وإن خرجت القصيدة الحديثة من أسر تقليديتها الصارمة بتشكيلاتها المنهجية المستندة الى قواعد وشروط ثابتة ومن خلال حركات التجديد فيها سواءاً في الشكل أم في المضمون مثلما كان عند رواد حركة الشعر الحر (شعر التفعيلة) المحافظة على الأوزان مع التلاعب بمتساوياتها العددية، وهو ما نلاحظه في اختلاف طول الأبيات وعدد التفعيلات مع تنوع القوافي. كما أنّ قصيدة النثر كما هو معروف هي تجاوز ايضاً لشعر التفعيلة بمضامينها التي دارت ضمن أطر التعبير عن أيديولوجية الشاعر الخاصة لتدخل في دائرة مواضيع جديدة في التناول مرتبطة بالحياة اليومية أو بارهاصات ووجديات روح الشاعر الذاتية.

 

وبذا يمكن النظر الى قصيدة النثر على أنها خروج من رحم الشعر الحر ( شعر التفعيلة) وتجديد آخر في شكله ومضامينه وابتعاداً عن أدلجة الشعر، ثم تجاوز لآخر رباط بالقصيدة الكلاسيكية وهما الوزن والقافية.

 

وفي قصيدة علي عصام الربيعي هذه نجد هذا التناول الفني (قصيدة النثر)، اختياراً منه فناً في الابداع والتعبير. هذا الاختيار مستند الى فهم العملية الشعرية بإطارها الحداثي، والنابع بالتأكيد من مطالعات لنصوص هذا اللون الشعري، وتأثر جليّ بها وبفنها التعبيري شكلاً ومضموناً. وهو الطاغي على المشهد الشعري العربي راهناً بين أوساط الشعراء الشباب، وحتى الشياب، لأنه كما هو معلوم برز في أواخر خمسينات القرن العشرين على مسرح الشعر العربي فناً متجاوزاً حداثة الشعر الحر متأثراً بمدارس الشعر الغربي، وذلك من خلال شعراء مدرسة مجلة (شعر) اللبنانية التي أصدرها يوسف الخال عام 1957 والذي نظّر لها في محاضرة قبل صدور المجلة بفترة قائلاً بأنه يجب:

"تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة. فليس للأوزان التقليدية أية قداسة."

 

في الدخول في عالم قصيدة الشاعر علي عصام الربيعي نتلمس هذه الملامح من قصيدة النثر التي اختارها شاعرنا فناً ابداعياً تعبيرياً يترسم خطاه وبوعي ملحوظ داخل بنية القصيدة شكلاً ومضموناً. فهو لا يلهث خلف الايقاع المُنَغّم بالبحور الشعرية الخليلية. كما أنه يتوجه نحو الانقلابية البلاغية بحداثتها، فيستعير مجازات تقليدية ليُغيّر قاعدتها الشرطية ومنهجيتها التراثية في البلاغة القديمة الى صورة جديدة من الأداء الفني التعبيري ليضيف جمالية شعرية تهزّ الذائقة المتوارثة بطعمها المعتاد على تلقي القصيدة بصورها وشروطها مثلما وردتنا تراثياً فألفناها واعتادت ذائقتنا عليها، بحيث أن الكثيرين لا تستطيع آذانهم ولا عيونهم أن تتقبل غيرها أو تحس بها فتعترف بشعريتها.

 

مثلاً استعار شاعرنا الشاب الربيعي التعبير المجازي المتداول في الحياة اليومية (حفظ عن ظهر قلب) والمقصود به الثبات والترسخ في الذاكرة لجملة أو كلمة أو تعبير أو صورة ، وهي تضرب كثيراً في حفظ النصوص المكتوبة، فهو يقول في جانب من القصيدة:

 

فشواطئي ما زالت تحفظ همك عن ظهر جرح

 

ويعني بذلك أنه ما انفكّ ملتصقاً بذاكرته يحفظ جيداً همومَ المُخاطَب بقصيدته وباستعارته للتعبير المذكور (يحفظ عن ظهر قلب) واستخدامه في الجرح (عن ظهر جرح) بدلاً من قلب، وهو بذلك يشير الى ترسخ الهموم والجراح ودوامها واستمراريتها في النفس، مثلما استعار مجازاً الشواطئ عن الانسان الذي هو الحافظ عن ظهر قلب، والشواطئ هنا دلالة البصر في التطلع والنظر الى البعيد لرؤية الهموم ومعايشتها بسعة وجريان النهر وعمق البحر. وبذلك يعطي المضمون زخماً شعرياً مؤثراً في التصوير والاحساس المشوب بجرح الانتظار، فإن الجرح النابع من طعنات الهم يظلّ نازفاً لا يتوقف نزيفه فهو محفوظ منحوت في النفس والذاكرة.

ويستمر الشاعر في مجازاته الحداثوية وبحس شعري ملموس ومقتدر قائلاً:

 

لديّ من الغبار .. مايؤرّخُ لابتعادك

 

الغبار يُعاملُ هنا وكأنه كائن حيٌّ يؤرّخ مثلما يؤرخ الانسان، فقد اقتبس الشاعر التأريخ من البشر ليضعه في مكتبة الغبار. وهو هنا يرمز الى أن الأرض وذرات ترابها هي التي تؤرخ لتلك العلاقة الحميمية بين الانسان وأرضه لأنّ هناك توحداً روحياً بينهما. والغبار هنا أيضاً يوحي للقارئ والسامع بالعاصفة والرياح لأنها هي التي تثير الغبار المتصاعد في الجو ليضرب وجه الانسان فيلتصق به ربما في حميمية لعمق العلاقة، لكنه مع ذلك يتصاعد محدثاً اختناقاً في الأنفاس. وهو هنا يريد أن يقول بأنه يحمل الهم مثل الغبار الخانق، هذا الغبار الذي يسجل مؤرخاً لمعاناة الشاعر واختناقه، في ذات الوقت الذي هذا الغبار هو نتاج الرياح العاصفة بالأرض الأم التي يأتي منها الشاعر نفسه. وبقراءة أخرى فإن معاناة الشاعر وجرحه نابعان من معاناة وجرح الأرض وانسانها.

 

وفي استعاراته من التعابير المألوفة في تراثنا اللغوي البلاغي يستخدم أيضاً ما تعودنا على استخدامه للدلالة على شدة القرب وهو التعبير الشائع (قاب قوسين أو أدنى) فيقول:

 

كنتَ قابَ متاهتين من احلامك

 

فهنا يريد أن يضعنا الشاعر في صورة وواقع أنّ أحلامه كانت أوهاماً ومتاهات غير مأمونة ولم يستطع تحقيقها، أو حتى الأمل والتفكير والاصرار على الوصول اليها. فهو كما نقرأ استعار صورة مجازية متوارثة مألوفة لدى المتلقي ليقلبها فيضعها في صورة أخرى جديدة غير مألوفة على الأذن العربية (قاب متاهتين).

 

ويمضي شاعرنا المتألق في قصيدته وبمجازاته المنقلبة وباحساس عالٍ ورقيق مثير لمعايشتنا أجواء لوحة القصيدة بانسياب سلس غير معقد الإطار والتلوين واللغة المتلاعبة بالشكل الذي يُلغي من المتلقي وعيه واحساسه بالصورة المطلوب ايصالها اليه. يقول الربيعي:

 

حاولتَ كثيراً

أن تتقمص موجك

 

وهنا استعار التقمص الذي يُستخدم للأرواح (تقمص روح) فأضفاه على الموج، بمعنى أنه يريد أن يقول للمخاطب، وأغلب الظن أنه ذاته، يريد أن يقول بأنه جهد في تقمص الموج أي أن يتصف ويتشرب بالاندفاع والتلاطم والعنفوان داخل نفسه.

 

ويمضي بنا الشاعر علي عصام الربيعي داخل فضاء قصيدته المعبرة بحرارة وشاعرية ورهافة حس عالٍ مع الهموم والجراح والأحلام المستحيلة والتأريخ المنحوت داخل الجرح النازف بالوجع حد اليأس والغربة والاغتراب، يمضي بنا متهادياً بلغته الشعرية السلسة البسيطة، من غير السقوط في زلل الضعف والركاكة والجمود، وبمجازاته المنقلبة وصوره المتلونة بألم الذات وجمال التخطيط،، يمضي بنا ليرمينا في الصدمة والمفاجأة في خاتمة مطاف القصيدة، وهي ما نسميه في فن الابداع بـ(النهاية الصدمة)، حين يُفاجَأ المتلقي بالخاتمة وبعنفوان لا يخلو من شاعرية ملموسة وتصوير فني موفق:

 

ونسيتَ

أن الموجة تولد عند شاطئ

لتموت عند شاطئ آخر

 

وهو بهذا جسّد تماماً وبصدمة شعورية ناجحة تجربة الغربة والعودة، وكأنه في تجربته يتحدث عنا نحن المغتربين والمهاجرين، فالانسان المولود بأرض تلاحم معها ونزف فوق ترابها وعاش أحلامه وآماله وارتوى من مائها وشبع من خيراتها إذا تركها فإنه يموت بأرض أخرى غريبة عنه، مع أن النفس لا تدري بأي أرض تموت مثلما يقول سبحانه وتعالى في مجمل كتابه الكريم.

 

لقد أحسستُ بأن الشاعر يتحدث في قصيدته عن تجربة الغربة عن الوطن وتأثيراتها، الشواطئ التي مازالت تحفظ الهم، الغبار الذي يؤرخ للابتعاد، البحر غير المناسب للدهشة، الاحلام التي هي قاب متاهتين، الموت عند الشاطئ الآخر. كل ذلك أوصل البرقية بسرعة البرق وقاب رمشة عين وكأني أقرأ عن سيرتي الذاتية وعن كل معاناة وهموم وجراح المهاجرين والمغتربين والمنفيين عن غبار أوطانهم. لكنه في الوقت نفسه يحاول أن يعطي أملاً  بالعودة ومعنى مضيئاً حين يصوّر بأن الملامح لا تتغير مهما اشتدت العواصف والأنواء، وأن الأرض تحفظ وجه الانسان وهمومه وذكرياته داخل ذرات رمالها وترابها:

 

لمْ تغبْ كثيراً

وملامحك لم تغيرها العواصف كفاية

 

بمعنى ان الرياح والأنواء لم تغير كثيراً من ملامحه رغم شدة عصفها وتأثيراتها، فهي غيّرت لكن ليس كثيراً وبما فيه الكفاية للانقلاب من حالة الى أخرى غريبة.

 

والحقَّ كما ذكرتُ، فهذه أول قصيدة أقرأها للشاعر العراقي علي عصام الربيعي وقد لفتت انتباهي وحفرت تأثيرها في الذائقة والنفس, وقد فكّرت أن أبحث عن نتاجه وعنه شخصياً من خلال ما يتوفر على شبكة النت، لكنني أحجمت مفضلاً أن أبقى أعيش متعة وحلاوة أجواء قصيدته التي شدّتني ومن أول نظرة وقراءة دون التأثر بأي جو آخر، تاركاً هذا البحث الى ما بعد الانتهاء من قراءتي وتخطيطي على القصيدة.

 

لقد اكتشفتُ أنني أمام موهبة مبدع يمتلك من مقومات الخلق الشعري ما يساعده على الاستمرار والتألق والنجاح، وفي الوقت ذاته عليه الكثير من جهد يبذله واصرار عنيد يحثه على التواصل مع الشعر وبنفس الاشراق والابداع، مع العمل على أن يكون لصوته خصوصيته بعيداً عن صدى الآخرين، ولصُوَره ملامحها بعيداً عن ملامح الآخرين.

 

 

القصيدة

 

(عالمٌ... هي موجتي)

للشاعر علي عصام الربيعي

 

لم تغبْ  كثيرا

وملامحك لم تغيرها العواصف كفاية

فشواطئي ما زالت تحفظ همك عن ظهر جرح

حين كنت تنحت نزقاً في الرمال

مثل نحات عجوز

.....

لدي من الغبار ..ما يؤرخ لابتعادك

وقتها..

لم يكن البحر مناسبا لاندهاشك

و لا ترانيم النوارس صديقة لك

كنت قاب  متاهتين من أحلامك

وقد  حاولت...

حاولت كثيرا

أن تتقمص موجك

وان تبتكر الجهات...والخطى

ونسيت

إن الموجة تولد عند شاطئ

لتموت عند شاطئ آخر

 

 

* عبد الستار نورعلي

  السويد

4 مايس 2009 

Back