من هم الفيلية؟
نجم
سلمان الفيلي المقدمة في صيف العام الماضي(1999) إثر عودتي من زيارة لكردستان. اتصل بي صديقي صاحب دار النشر التي اضطلعت بنشر معظم كتبي في السويد، وسألني نيابةً عن بعض الاكارم الفيليين - أن ادلي برأيٍ حول مؤلف يتعلق بالتراث والتاريخ الكردي ، فاعلنت دون تردد استعدادي لقراءته وبيان رايي فيه، وفي نفسي رغبة ومتسّع رحيب لتلبية أي مطلب او قضاء أي حاجة أُكلّف بها من هذه الجهة بالذات . فلبعضهم فضل عليّ ، وانا ممن يحفظ الجميل . ولبعضهم ذكرى طيبة ذات علاقة بفترة عصيبة من فترات حياتي .
ثم زاد الصديق فقال: إنهم وعلى ضوء الرّأي الذي ستكوّنه - سيقررون صلاحه للنشر أو اهماله. وهنا تهوّلت الأمر . فمن طبعي أن أناى بنفسي عن مجلس فصل أو قضاء ولكني قررت ان اخرق هذه القاعدة هنا. فأنا مدين للكرد الفيليين ومُكبِر فيهم روح الوطنية وقد ابدوه لي شخصياً في مواقف معينة.
فقبل اربعين عاماً بالضبط (1960) استهدفتْ حريتي الى ملاحقة الحاكم العسكري العام في العهد القاسمي. وارتأى الحزب الديمقراطي الكردستاني وأنا من اعضائه أن اتوارى عن الانظار ، وعندها انبرى السيد حسين الفيلي عضو اللجنة المركزية وقتذاك ، ليتعهد بالمحافظة عليّ واقتبالي ضيفاً في منزله، وهكذا كان وقد امضيت قرابة خمسة اشهر ضيفاً على الأسرة ، بل اشبه بفردٍ من افرادها .
ومما اذكر ايضاً ان طائفة من الكرد الفيلية الذين هجّرهم النظام العراقي اقبلوا عليّ ونحن لاجئون في ايران لثقةٍ شرفوني بها، ووضعوا بتصرفي عدة آلاف من التومانات وخوّلوني أمر توزيعها على المحتاجين من اللاجئين الكرد. وكان ذلك في العام 1985-1986 وأوصوني بالكتمان التام أي دون ان اذكر لأحد من أعطى ومن أخذ، فرأيت توزيعه على جرحى البيشمركة في الفرع الخامس للحزب وبمعرفة القائمين به وكلي اكبار وعجب من هؤلاء المحسنين وكثير من بني قومهم ضحايا التهجير هم في حاجة الى مثل هذا البذل والعطاء . ثم عزّز طلب مراجعة الكتاب رجاء برجاء من الصديق الباحث المرحوم الدكتور علي باباخان الذي اختطفه من بيننا حكم القضاء وهو في عز شبابه وحرم عالم الفكر الكردي من نشاطه العلمي.
وكان من الطبيعي أن أسال عمن يكون مؤلف الكتاب وما الذي منعه من توجيه هذا الطلب بنفسه ، ولم يكن اسمه معروفاً لدي ولا مألوفاً عندي بين من قرأت لهم من الكتّاب ، فاذا أفاجا بصدمة اليمة اذ قالوا لي انه قد توفي قبل بضعة أشهر في المنفى وأنه ترك زوجة وخمسة أطفال، وانهم من بين عشرات الالوف من الكرد المهجرين ، وقد تم قذفه مع اسرته عبر الحدود في العام 1980.
ألمني ذلك كثيراً ، فالكاتب يموت وفي نفسه حسرة عندما يخلف وراءه كتاباً مخطوطاً لم يساعفه الزمن لطبعه. وسلوى الكاتب ومكافأته الوحيدة لقاء الجهد الذي يبذله في التأليف هو رؤية مؤلفه يشغل حيزاً في مكتبة. والى جانب هذا انتابني حرج كبير، فبغياب صاحب التأليف اكون قد فقدت عوناً بل نوراً ينير لي ظلمات فيه، فضلاً عن صعوبة اتخاذ قرار منفرد في أي تعديل او اضافة او حذف . وهي تبعة جسيمة وخطيرة ، أن تكون الحكم الفصل بين طرف لا وجود له وهو المؤلف وبين طرف أخر هو القراء .
ثم اني اشفقت على الزمن الذي سيستغرقه عملي فيه من حياتي وأنا في خريفها وكل ساعة منها تعادل يوماً واحداً على الأقل من ايام الشباب والصبا، وسيكون الحالة هذه ثمناً في غاية الفداحة أدفعه مما تبقى من العمر . وبين هذا وذاك ، بين الرفض والقبول ، انتهيت الى هذا القرار ، أن أجعل لمحتويات الكتاب ومقدار فائدته ألقول الفصل في اصلاحه ومراجعته.
بهذا الهدف طالعتُه وقد دفع الي مسجلاً بالكومبيوتر في زهاء ستمائة صحيفة ، فوجدت فيه جهداً خارقاً حاول صاحبه ان يجعل منه اوسع دراسة عن هذه الطائفة الكردية التي عرفت باللر والفيلية. فضم كل ما يخطر بالبال من تاريخ ، وسير ، وتراث ، وحكايات اسطورية ، واساطير شعبية ( فلكلور)، واهم من كل هذا انه بدا اشبه بمعجم محيط باسماء القبائل والعشائر الكردية، اصولها ، أحوالها ، طبائعها ، مواطنها ، تنقلاتها ، رؤسائها ، اسرها الحاكمة ، علاقاتها بعضها ببعض ، صداقاتها، عداواتها، غزواتها ،حروبها ، تنقلاتها ، اوصافها ومميزات افرداها الجسمية وما اشتهروا به وبرزوا وكل ما يخطر بالبال عن احوالها.
واتفق اني وبعد القراءة الأولى واتخاذ القرار وبمراجعته - ان وصلتني هدية الصديق السيد عبدالجليل الفيلي وهو كتاب الّفه في الموضوع عينه وبعنوان [ اللور ( الكرد) الفيليون في الماضي والحاضر] اتم تاليفه وطبعه في كردستان العام 1999، ويقع في 160 صحيفة متوسطة الحجم وفيه كثير من المعلومات وهو جدير حقاً بالقراءة ، وربما كان الكتاب الأول في هذا الموضوع وهكذا تأبى الصدف الا أن يسبق الصديق عبدالجليل بمؤلفه صاحبنا المتوفي ، ولا فكرة لي عما اذا كان احدهما يعرف الأخر أو على ما هما في سبيله من الكتاب وقد خطر ببالي ولا ادري كيف وأنا اقرأ الكتابين معاً ببيتين من أرجوزة (ابن مالك) النحوية المشهورة بألفية ابن مالك يشير بهما الى ( الفية) مماثلة سبقه بتاليفها (ابن معطي) تقتضي رضى بغير سخط فائقة الفية ابن معطي وهو بسبقٍ حائز تفضيلا مستوجب ثنائيَ الجميلا بعد موافقتي على تدقيق الكتاب ومراجعته وقد قام السيد ( ديلان صالـــــــــح بنقله نقلاً دقيقاً بالداتا مسهّلاً علي الأمر الى درجة كبيرة )، ابى السيد ( حميد نوروز أبان)، وهو القائم على طبعه بنفقته الا ان تكون هناك مكافأة على اتعابي، وعند اصرارٍ منه وبعد تردد كبير مني جعلتُها مكافأة رمزية. وكما نوهت قبل قليل، تضاعفت مصاعبي بغياب صاحب التاليف وكان علي أن استعير دوره في المراجعة فوجدت نفسي اواجه مهامَّ ثلاثاً. اولاها أن اقوم بوضع الكتاب في أسلوب عربي رصين مستدركاً الاخطاء اللغوية نحواً وصرفاً مع اعادة تركيب بعض الفقرات والعبارات وكان هذا من اولى المطالب لأن لغة الكتاب ليست لغة المؤلف الام ثم متى سَلُم مطبوع عربي من الاخطاء؟.
بعدها وجدت ان المؤلف لم يهتم بالتعريف ببعض الشخصيات التاريخية او الوقائع الهامة التي ورد ذكرها عرضاً في السياق – بشكل تعليقات وهوامش ، مما قد يخلف غموضاً أو التباساً عند القاريء واهتم فحسب باثبات المراجع التي استند اليها ، فاضطررتُ الى سد هذا النقص باضافتها على قدر معلوماتي ونبهت القارئي الى ما اضفته بوضع حرفي(ج . ف) في نهاية التعليق ولم اقدم على هذا بقصد اظهار مقدار اسهامي او طول باعي بل خشية ان لايعزى للمؤلف أي خطأ وقعت انا فيه، وانا المسؤول عن تعليقاتي وحدي.
والمهمة الثالثة كانت تبويب الكتاب وتجزئته الى فصول ، فالمسودة التي وضعت في يدي كانت قاصرة على اسماء ودلائل لمحتوى الجزء الآخر من اجزاء الكتاب. وهنا اود التاكيد اني لم أجر أي تعديل أو تغيير في النص الا ما اقتضى تعديله اسلوباً والكاتب هو المسؤول عنه اولاً وآخراً . وكان اعظم اهتمامي وعنايتي منصبين على الفلكلور والاساطير والقصص والحكايات الشعبية التي تناقلتها الأفواه والاسماع كابراً عن كابر وبعضها حديث نوعاً ما وبعضها قديم ومنها ماهو موغل في القدم ، ذلك أهم ما احتواه الكتاب في نظري ، وجمعها وتعقيبها بهذا الشكل ، لابد وان اقتضى جهداً ووقتاً طويلاً فهذه الحكايات عرضة للضياع ، مهددة بموت رواتها في كل ساعة. ولاشىء احفظ لتراث الأمة من امثالها. ولم احمد للمؤلف مثلما حمدت له مجافاته الانتقاء والتفضيل واثبات تلك الحكايات تماماً مثلما سمعها من غير حذف أو تزويق رغم ما في بعضها من مبالغة وتهويل وبطولات تخرج عن حدود المعقول. وهذا هو شأن الحكايات الشعبية عند كل الاقوام والامم قديمها وحديثها وهو جزء لايتجزء من حضاراتها.
وادهشني البحث المضني الشاق عن القبائل وافخاذها وفروعها مثلما فصلت آنفاً. وكدت احكم على الجهد المبذول في تقصيها حكما سلبياً مشفقاً على ضياع الوقت. وقد بدا لاول وهلة لي عبثاً وعملاً عقيماً لا نتيجة فيه قد يكون شبيها بالبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة وبعينين معصوبتين. لكني اسرعت لادراك تسرعي حين تذكرت خطأي وانا في اول عهدي بالكتابة والمطالعة، بحكمي المبتسر على الكتاب (الأنساب) الشهير للمؤرخ والباحث احمد ابن يحيى المعروف بالبلاذري (ت 892م) وقد وقع بيدي في حينه بطبعة حجرية سقيمة فنحيته عنى جانباً متسائلاً كيف يمكن أن يفني مؤرخ كبير مثله السنوات الطوال في تعقيب انساب الأسر الشهيرة؟ واي قيمة تاريخية لها؟ لكن مامرت سنوات حتى ادركت فساد رأيي وكان قد عظم في عيني كتاب الانساب واصبح مرجعاً لاغنى لي عنه. ثم تعقّبت طبعاته العديدة وهي تتوالى بأشراف وتحقيق كبار الادباء ورجال القلم. وفي الانساب واصول القبائل التي نقبّ عليها المؤلف ونسقّها شيء قريب من هذا. وانا لا اشك في ان حبّ الاستطلاع ، مجرد حب الاستطلاع على الأقل ان لم يكن غيره سيقود الكثير من الكرد الفيليين اينما كانوا ، الى تقصي اصولهم القبلية وتعقيب شجرات انسابهم الى الاسلاف والاجداد من خلال ما جاء في الكتاب من تفاصيل دقيقة. فما زال الانتساب الأسري أو القبلي مصدر اعتزاز وفخر وهو ليس قاصراً على الكرد الفيلية او الكرد بالدائرة الواسعة، فالحرص على تعقيب النسب سيبقى ابداً مطلباً عاطفياً ولا تستثنى منه الاقوام التي ضربت بسهم وافر من المدنية وطلقت حياة البداوة منذ زمن بعيد ، كما هو الحال عند الاسكتلندي او الايرلندي، بل عند الاسر الامريكية العريقة التي هاجر اباؤها الى العالم الجديد في زمن متقدم ، والكثيرون بينهم يحرصون على شجرة نسبهم بل يتمادى بعضهم الى حد انشاء نواد وجمعيات خاصة قاصرة على انتماء قبلي أو اسري تقيم اجتماعات وتخترع مناسبات معينة للتذكير بهذا يجري خلالها ممارسة تقاليد مأثورة - بالزي القومي وبطقوس معينة متوارثة[1].
وبتلك الالوف من الاسماء ، قبائل، عشائر، افخاذاً فروعاً ، الى جانب مماثل او يزيد من اسماء الاشخاص والامكنة والبلدان ، كان من المتعذر تصنيف فهرست بها يلحق بالكتاب ، مثلما تعذر وضع جدول كامل باسماء المصادر والمراجع التي اعتمدها المؤلف وهي فارسية وكردية وعربية ، وقد تبين لي ان المؤلف رجع الى الأصل بخصوص اللغتين الأخيرتين ،الا فيما ندر ، او عندما عز عليه النص الاصلي. والمراجع الفارسية فيه اكثرية غالبة ضمن ثبت بما يناهز مائة مرجع اعتمدها المؤلف . وهي اما مؤلفات اصلية باقلام كتاب وباحثين ايرانيين واما تراجم الى الفارسية عن كتب أثاريين ومنقبين وساسة وانثربولوجيين ومؤرخين وباحثين اجانب بين بريطاني والماني وفرنسي وامريكي وهلم جرا، ولاحظت أيضاً انه رجع في احيان قليلة الى ترجمة ايرانية لكتاب عربي عندما عز عليه الأصل.
اكتفى المؤلف بادراج اسماء الكتب ومؤلفيها ومترجميها مفضلاً على اثبات امكنة نشرها وتاريخ المنشر كما اغفل ايراد اسماء المؤلفين الاجانب بلغة الكتاب الاصلية ، لا ادري ما الذي جعله يهمل ذلك الان المنية ادركته قبل أن يسد هذا النقص . أم بسبب حداثة عهده بانجاز مؤلف معد للطبع؟ حاولنا استدراك هذا النقص عبثاً . وفشلت محاولة السيد ( حميد نوروز ابان) القائم على تمويل طبع الكتاب رغم المجهودات التي مازالت تبذل في هذا حتى كتابة هذه السطور. على اني اود أن أطِلع القارىء على مجهوي الخاص في التثبّت من امانة نقل المقتبسات من تلك المراجع. فقد اتفق اني كنت جيد الالمام بكثير من الأصول الاجنبية وبعضها من مقتنياتي . فضلاً المؤلفات الفارسية وكنت قد وقفت على بعضها ايام وجودي لاجئاً في ايران. وعلي بهذه المناسبة الشهادة بالامانة والدقة التي التزمها المترجمون الايرانيون، وقد شهدت العقود الثلاثة الاول من نصف القرن الماضي ثورة عارمة في النقل والترجمة في ايران، ولم يبق كتاب قيمة الف عنها الا وكانت له ترجمة فارسية. ومن القليل الذي ضاهيته بنفسي وقارنته بالقليل مما هو تحت يدي من مراجع ، استطيع التاكيد للقاريء بان المؤلف كان يتحرى الأمانة في النقل واقتباس الاسانيد. وبدا اختيار العنوان الذي سيطلع به الكتاب على القراء من اسهل الأمور بل تصورته اسهل المشاكل التي عنت فيه. الا اني كنت واهماً فلم يستحسن الاخوان أي واحد من العناوين التي اقترحتها عليهم وتبين انهم جاؤوني وقد استقر رأيهم على اسم معين للكتاب ، ان السادة الذين اطلقوا يدي حرة فيه أبوا الا ان يستأثروا بهذا الامتياز وهكذا كان.
من هم الفيليون؟ لأول وهلة بدا لي الاختيار غريباً ، بل ضعيفاً ازاء ما انتقيت له من عناوين ، على اني مالبثت حتى تبين لي مبلغ الاصابة في الاختيار، بل مبلغ صدقه في الاعراب عن ظلامة وشكوى مزمنة ذات ابعاد سياسية واجتماعية وعنصرية طويلة الأمد يجيش بها قلب كل كردي فيلي. انها شكوى مزمنة من انكار اوساط كثيرة انتمائهم القومي ، ومحاولة سلبهم موضع فخرهم واعتزازهم هذا. من اقدم ما لدينا من نصوص حول كردية اللر( الفيلية) ما اورده الجغرافي والرحالة ياقوت الحموي المتوفي 1228 م في موسوعته الجغرافية ( معجم البلدان)[2] . اللور كورة ( اقليم) واسعة من خوزستان واصبهان معدودة من عمل خوزستان . ذكر ذلك ابو علي التنوخي في نشواره [3] والمعروف ان اللور وهم اللر (ايضا جيل (قوم) يسكنون هذا الموضع ... واللر وهو جيل من الاكراد (يقطن) في جبال بين اصبهان وخوزستان وتلك النواحي تعرف بهم فيقال بلاد اللر. ويقال لها لرستان ويقال لها اللور ايضاً). لأغراض سياسية متعددة تمليها الظروف المحلية في احيان كثيرة تثار الشبهات حول قومية الكرد الفيلية ويشكك في انتماءاتهم وفي مقدمة هذه الاسباب والاغراض هو تشرذم الأمة الكردية بطريق رسم حدود دولية في قلب وطنها الكبير. فكان الاتجاه لتلك الدول العصرية القومية الجديدة التي برزت بعد الحرب العظمي الأولى التقليل عدديا من ابناء الامة الكردية الى جانب تقليص مساحة اراضيها ومواطنها الاصلية لتعد اقلية غير هامة في تلك الدول وكان من مصلحة الدولة العراقية والايرانية واطراف كثيرة أخرى اخراج الكرد اللر ولاسيما الفيليين فضلاً عن قبائل كردية كثيرة اخرى من حريم الامة الكردية بنسبتهم اما الى ارومة عربية واما الى اصول ايرانية.
وقد تجلى العامل السياسي في محاولة أخراج الكرد الفيليين من الحريم الكردي بعبارة وردت في كتاب (ادموندز) الذي كان واحداً من اركان عهد الانتداب على العراق . وبمركزه التالي مستشاراً لوزارة الداخلية العراقية طوال السنوات العشر المنتهية بالعام 1945. قال (ان الطريق السلطانية الممتدة من كرمنشاه الى كرند ، يليها الخط المستقيم المنتهي بـ( مندلي) وهو على وجه التقريب الحد الف بين بلاد الكرد الاصلية وبين ذوي قرباهم ( اللر و اللك)، يعدون من ضمن الشعب الكردي). ثم عاد في الحاشية الصحيفة ليقول. (اولئك الكرد الذين يشاهدهم الناس يومياً في بغداد يحملون على كواهلهم اثقل الاحمال ويقومون بالاعمال التي ذكر كتاب الف ليلة وليلة انها مهمة اسلافهم بالضبط قبل الف ومائتين من السنين هم ليسوا كرداً وانما هم من اللر الذي جاؤوا من غرب اقليم كردستان المعروف بأقليم بشتكوه.[4] كان من بين اهداف بل واجبات ( ادموندز) وهو صاحب الدور الكبير والمخطط للقضاء على ثورة الشيخ محمود الحفيد ودولته. ان يقلل وبحكم منصبه من التواجد الفيلي على ارض العراق. بل ان ينكر انتماءهم الى القومية الكردية تمشياً مع السياسة البريطانية التي استقرت عليها في العراق فانكرت عليهم عراقيتهم وحرمتهم الجنسية الجديدة للدولة المستحدثة واعتبرتهم مواطنين ايرانيين نازحين الى العراق. بسبب الرباط القبلي ووشائج القربى التي تشد بين هؤلاء وبين الاخرين الذين يسكنون الجزء الفارسي من لرستان والبختياري الشرقية ، بغية التقليل من شأن التواجد الكردي في البلاد الجديدة المسماة العراق. وقد بدأت هذه التجزئة القبلية الكردية منذ العام 1639 في الجنوب عند التوقيع على اول معاهدة حدودية بين حكومة آل عثمان وحكومة الصفويين.
وبعين الروح والهدف تم عقد معاهدة لوزان في العام 1923 بديلاً لمعاهدة سيفر الميتة بين الخلفاء وبين الحكومة التركية الجديدة وفيها عولجت مسألة الجنسية العراقية والتركية، فجعلت امداً لاختيار الجنسية التي يفضلها المواطن العثماني بين تركيا او العراق ، واهملت تماماً البت في جنسية الكرد الفيلية المنتشرين في معظم ارجاء الدولة الجديدة، الذين بقوا منذ اول معاهدة عقدت بين الامبراطوريتين الجارتين عرضة لتغير جنسياتهم تبعاً لتغير الحدود خلال المعاهدات العديدة المنتهية بمعاهدة رسم الحدود في العام 1913 وهو العام الذي سبق الحرب العظمى الاولى. ومن الجدير بالذكر هنا ايضاً انه كان من سياسة الحكومة البريطانية المنتدبة ان تقلل عدديا من الغالبية الشيعية. بعد ان سلمت مقاليد الحكم في الدولة الجديدة للاقلية السنية ولغرض تحقيق بعض الموازنة الطائفية. والمعلوم ان الكرد الفيلية هم على المذهب الشيعي وبواقع كون الجار الشرقي شيعي المذهب أيضا، ولم تكن الحكومة البريطانية في وفاق قط معه.
وصدر قانون الجنسية العراقية في العام 1924 على ضوء نصوص معاهدة لوزان التي مر ذكرها والاستهداء بها والاعتماد عليها وكان الحكام العراقيون الجدد على معرفة تامة بالظروف الغريبة التي الجأت عدداً كبيراً من الكرد الفيلين العراقيين الى نبذ الجنسية العثمانية تلك المشكلة التي انقلبت الى ماساة عظمى بالتهجير القسري الجماعي للألوف المؤلفة من اولاد واحفاد واحفاد احفاد هؤلاء.
ولابد لي وقد بلغت هذه المرحلة الدقيقة ان اشرح للقارىء عنصر المأساة واساسه وهو ما سيتتطلب منى الخروج عن الموضوع قليلاً. بصدور قانون القرعة العسكرية ثم نظام التجنيد العثماني كان العراقي المجند والذي تشمله القرعة اشبه بذلك المحكوم عليه بالموت ما ان تضع السلطة يدها عليه، وكان اهله وذو قرباه يشيعونه وكأنهم يشيعون جثمانه الى القبر اذا ندر ان عاد احد الى اهله حياً معافى. ففي خلال العقود الاربعة التي سبقت الحرب العالمية الاولى كانت الدولة العثمانية بحاجة دائمة الى جنود في حروبها العديدة أفي البلقان أو القفقاس أو طرابلس أو شمال ايران. وكثيراً مالجأ المجندون الى أصابة انفسهم بعاهة تعفيهم من الخدمة ان لم يفلحوا في التواري عن اعين السلطة ، الا أن المتمكنين منهم اكتشفوا طريقة اضمن واسهل، الا وهو شراء الجنسية الايرانية من القناصل الايرانين في بغداد والبصرة والاماكن المقدسة المستعدين دوماً لقاء مبلغ من المال الىاصدار جنسية للعراقي ، تجعله في مأمن من الخدمة العسكرية، وهم يفيدون ايضاً بطريقة مشابهة من خراب ذمة موظفي سجلات النفوس العثمانين المستعدين ايضاً لقاء رشوة- لشطب اسم المجند من قيود النفوس الرسمية قبل ان يغدو خاضعاً للخدمة العسكرية[5] وكان دفتر (التبعية الايرانية) أو شطب الاسم من قيد النفوس العثماني في وقت الشدة سبيل الخلاص الوحيدة من الموت المحقق. ولم ينفرد الكرد الفيليون باللجوء الى بهذه الوسيلة المنقذة بل شاركهم فيها العديد من العرب ايضاً. وقد خلف هؤلاء ذرية كبيرة لحقتهم لعنة الجندية العثمانية ليقعوا ضحايا التهجير البعثي لعام 1970-1981.
وبدا قانون الجنسية العراقي الصادر في 1924 غريباً شاذاً . فبخلاف كل قوانين الجنسية والتجنس جعل الفصل في هذا الأمر الحيوي من اختصاص السلطة التنفيذية اولاً واخيراً بايداع القرار النهائي بعراقية المواطن وزير الداخلية بدلاً من القضاء. وفي العام 1970 عندما بدأ حكام البعث يعدون قوائم التهجير وكانت هناك عوامل اخرى وراء هذه الدراما.
اقترنت يقظة الشعور القومي الحاد في كرد العراق الفيلية برد الفعل القومي العربي من جهة وبالحرية السياسية النسبية الى تمتع بها كرد العراق بعد زوال العهد الملكي وتميز لفترة قصيرة بنشاط الحزب الديمقراطي الكردستاني لاسيما في مركزه بالعاصمة بغداد فانضم الكثيرون منهم اليه وساهموا في فعالياته مادياً ومعنوياً وكان للكرد الفيلين في العاصمة مركزهم الاقتصادي الخطير اذ بداوا بجدهم وسعيهم في احتلال المراكز التجارية والاقتصادية التى خلت بالنزوح الجماعي اليهودي عن البلاد أو قل بطردهم في مفتتح النصف الثاني من القرن العشرين ، وانصب عليهم جزء من الملاحقة والاضطهاد اثر قيام الحرب التي شنها عبدالكريم قاسم في كردستان ، وكان الحي الكبير المعروف بـ(حي الاكراد) في بغداد ، ميدان المعركة الكبرى في انقلاب الثامن من اذار 1963 ، اذ وقع الحي كله تحت الحصار لمدة اربعة ايام بليالها وضرب بالمدفعية والراجمات وسقط عدد كبير من سكانه صرعى قدره بعضهم بعدة مئات.كان حى الاكراد في بغداد ، اخر جيوب المقاومة المسلحة للانقلابين البعثيين. والبعثيون لم ينسوا تلك المقاومة. ومن ابسط الامور واسهلها اثارة الصلة القديمة اثارة التبعية الايرانية ليتم التخلص من هذه الشريحة الكردية، قومياً وطائفياً واقتصادياً.
واتبعت في ايران ايضا سياسة التبعيض الكردي وآيتها الفصل عنصرياً بين كرد الشمال الذين تضم المحافظة المسماة (استان) كردستان معظمهم ، وبين سائر الاقاليم الكردية الجنوبية باغلبيتها الساحقة اللرية الكردية وبدا لهم وكان من يسكن استان كردستان هو وحده الكردي وأنمت في هؤلاء روح الانعزال القبلي الذي ادى بالنتيجة الى ان يعتبروا انفسهم عنصرياً فرقة من الشعب الفارسي وقد وجدت مع الأسف من يحاذر ويانف من الانتساب الى الارومة الكردية بين الحضريين الذين سكنوا المدن والقصبات حين ما كان احد من الريفيين أو القبائل الرحالة يهتم كثيراً بنسبة نفسه الى الامة الكردية ولايخطر بباله ذلك فالوعي القومي كان مفقوداً تماماً عندهم وهو لايتأنّى بالوحي او الالهام بل بدرجة الرقي الفكري والثقافة وكل هؤلاء القوم اميون يكادون يعيشون على الفطرة .
ولم تتغير الحال بكثير أو قليل سواء أفي العهد الملكي او الجمهوري فالتعمية على الاصل الكردي لسكان الجنوب الغربي من ايران كان بمثابة الامر اليومي [6]. وأمامي الان كتاب عنوانه (اركولوجية في طور التكوين)An Archaelogist in the Making من تأليف الاثارية الاسكتلندي (كلير كوف Clare Goff) المطبوع في العام 1980 تحدثت فيه عن نتائج ستة مواسم من التنقيب (1963-1969) في امكنة اثرية معينة في لورستان ياتي كثيراً الى وصف الحياة الاجتماعية اليومية لقبائل اللر الفيلية المستقرة والرحالة وقد عاشت بينهم وشاركت في مناسباتهم التقليدية وشاطرتهم همومهم وافراحهم (ان العطف والكرم الذي خصوني به فاق كل تصور).
في كتابها هذا الذي يناهز ثلاثمائة صحيفة لاتجد كلمة (كرد، أو كردي) واحدة ، تركت هذه المنقبة الاثارية (عيلام) الى غير رجعة وهي تجهل انها كانت تعيش بين اللر! لم يقل لها واحد ممن خالطتهم وساكنتهم واستخدمتهم انه كردي لورى! او فيلي ! هذا وقد نشطت حركة البعثات التنقيبية في ارجاء ايران والعراق منذ اوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الا منطقة لرستان وعيلام. فقد بقيت كتاباً مغلقاً ولم يفض الا بمحض صدفة. ففي العام 1929 اثناء ماكان بعض الفيليين اللر يحفرون في حقل عثروا على مقبرة تعود الى عصور ماقبل التاريخ تضم قبوراً سطحية مؤطرة بحجارة ويقوم على رؤسها شواهد حجرية وجدوا فيها هياكل عظيمة لرجال ونساء واحياناً الخيول، وتحيط بها اوان فخارية مزججة مع حلي واسلحة وادوات منزلية خاصة بالحياة اليومية وكل ما تحتاج اليه الارواح في الحياة الاخرى، وانفس هذه القبور كان يحتوي على عدة للخيل برونزية واسلحة في نهاية الاتقان بزخارف جميلة. تم تهريب هذه اللقى البرونزية عن طريق (هرسين) وهي قرية تقع في الزاوية الشمالية الشرقية من الاقليم بالقرب من كرمنشاه ووجدت طريقها الىالخارج واستقرت في المتاحف او منازل صيادي التحف والاثار الخاصة[7].
اثار ما تسرب منها الى الخارج اهتماماً . وبطبيعة الحال فان الاركيولوجين لايهتمون باللقى الجميلة او الثمينة التي يعثرون عليها ولا يبحثون عنها وانما هم وراء معرفة قيمتها التاريخية ومقدار تاثيرها على التقدم الحضاري الا ان اعظم اهتمامهم يتركز في الاثار الثابتة (الابنية والمساكن والكتابات وما اليها) وقد تلا هذا الاكتشاف كشوف اخرى واغرقت الدوائر الاثارية من متاحف ومعروضات خاصة بهذه اللقى البرونزية والاوعية الفخارية المزججة ذات الاشكال العجيبة والنقوش الغريبة طوال العقود الثلاثة وبخلال ذلك جرت اولى محاولات التنقيب في تلال لرستان الاثرية في العام 1932 حيث قام الاستاذ( شمدت) بازاحة التراب عن ابنية عتيقة هناك يعود تاريخها الى الالف الاولى قبل الميلاد . ثم قام هذا العالم الاثاري بمسح جوي للاقليم كله . ونقب خلال سنتين في ثلاثة مواقع لكنه لم يجد فيما يبدو الوقت الكافي لنشر نتائج مجهوداته في لرستان. وفي الوقت ذاته اقدم السر اوريل ستاين على مسح وتعيين مواضع معظم التلال الاثرية لما قبل التاريخ ولم تكن الحكومة المركزية تشجع نشاطاً ما في تلك الانحاء واقتصر بنشاط التنقيب على المواقع الاثارية الايرانية الخاصة بالسلالات القديمة الحاكمة. وكان هناك الرحالة المستكشفة فريا ستاركFraya Stark وقد تردد اسمها كثيراً في هذا الكتاب ففي العام 1931 عبرت الحدود العراقية خلسة. واجرت استطلاعات سريعة خاطفة في معظم انحاء لورستان حيث مصدر تلك القطع البرونزية ولاسيما في منطقة (كرمسر) حيث جرى تهريب ونقل ماعثر عليه الى الشمال عبر جبال (كوهي سفيد).
وعقبها مدير دار الاثار الفرنسية آندريه كوادر بزيارة لـ(سردسير) وهو منتجع رعي عشائر الكاكه وند اللرية جنوب (هرسين) مباشرة ولم يكتب عن نتائج ابحاثه وتوقف النشاط التنقيبي هناك بالحرب العظمى الثانية وماتلاها من ارهاصات واضطراب سياسي اكثر من ثلاث عقود. وفي خلال هذا التوقف برزت تخمينات و نظريات حول هوية ذلك الشعب الذي صنع تلك الحاجات البرونزية اللرستانية ورسم الزخارف القريبة الغريبة باشكالها على الاوعية الفخارية. وتنافست نظريتان عرفت النظرية الاولى (بالكاشية) ومحصلها ان اقليم لرستان كات يحتله في الالف الثانية قبل الميلاد بمجموعة عرقية عرفها التاريخ القديم باسم (الكاشيين) او (الكاسيين) الذين قوضوا صرح الامبراطورية البابلية في حدود العام 1600 ق.م . ويبدو انهم كانوا في اولى درجات سلم الحضارة. ولم يكن يعرف عنهم اكثر من هذا الا القليل جداً ولذلك عزت مجموعات من الباحثين اللقى والاثار الثابتة التي تعود الى الألف الثانية ق.م الى الصنع الكاشي .
أما النظرية الثانية وتعرف بنظرية (بدو الشمال) فهي تستند الى ماجاء في المدونات الآشورية واليونانية . ففي خلال النصف الثاني واواخر النصف الأول من الالف الاولى ق.م خضعت ايران لسلسلة من غزوات شمالية وأظهر ما عرف منها الغزوة الميدية (المادية) التي فرضت لغة قومها وحضارتهم على البلاد كافة.
كانت هناك ايضاً الغزوة الفارسية والغزوة الاسكيثية (الحيثية ، الصقلبية) والغزوة الكيمرية . وقد عرف هؤلاء الأخيرون بالفروسية. وكان من عاداتهم دفن خيلهم واسلحتهم صحبة موتى رؤسائهم . ويقول اصحاب هذه النظرية: ما من شك في ان اللرستانيين القدماء اخذوا هذه العادة عنهم.
في عين الوقت بدأت نظرية ثالثة تلوح في أفق استقراء معميات التاريخ القديم لهذه المنطقة. فقد توفر عدد من الجيل الجديد من الباحثين الى دراسة كل ماتم اكتشافه من البرونز اللرستاني واستنتجوا انه يعود الى فترات متباعدة. بعضه يعود الى عصور ماقبل التاريخ وبعضه يعود الى 2000 لما قبل الميلاد وبعضه يعود الى حوالى 500 لما قبل الميلاد. ويستدل من هذا ان بلاد اللر تميزت بتقاليد صناعة عريقة جداً قامت على وجود مناجم النحاس والقصدير فيها بكثرة وان اهلها توارثوا الصناعة (نقابياً) ان جاز لنا التعبير في معدن النحاس ومركباته واشتغلوا للكاشيين والآشوريين والبابليين وللعلاميين ولقبائل الشمال التي كانت تحكم لرستان.
وكل هذا تخمين ، ومواطن الكرد اللر (الفيلية) ماتزال من ناحية التنقيبات الاثارية في عداد الاراضي البكر تنتظر معاول وفؤوس المستكشفين الاثارية ونتائج مدراستهم لما سيقعون عليه من آثار حضارية وما سيتوصلون اليه من معلومات عن اسلاف هذه الشريحة الهامة من الامة الكردية . وها هنا سيدرك القاريء معي. مبلغ اصابة اولئك الذين اختاروا للكتاب عنوان (من هم الفيليون) بل مبلغ ما فيه من صدق تعبير عن الظلامة الكبرى التي يشكو منها شعب او طائفة من شعب تنكر عليه قوميته او تُزيّف. ********** ولابد من خاتمة لتقديمي هذا. واذ عرفتُ كيف ابدأ، فلا أدري كيف أنتهي . وخير ما يخطر ببالي هو ان اتقدم بالشكر العظيم بالثقة التي وضعت بي في تقديم الكتاب ومراجعته وان عد بعضهم هذا فضلاً مني فانأ لا اعده الا واجباً . والفضل كل الفضل لهؤلاء السادة الذين ذكرتهم ، في اخراج الكتاب الى القراء . جرجيس فتح الله كاترينهولم - السويد 2 آب 2000
|
||